المواطنة بين الغاية والممارسة

الوطن والمواطنة ركيزتان من ركائز العصر الحديث ونتيجة لتطور مفاهيم وممارسة المجتمع البشري، حيث تقوم عليهما التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تسيّر وتنظم علاقات المنظومة الدولية. إن هذين المصطلحين متلازمان وضروريان لوجود تنمية حقيقية, فلا يكفي وجود وطن لا يؤمن ويعمل أهله بإخلاص وتفان له, كما لا يكفي حمل جنسيته في الجيب والبعد عنه والعيش في مكان آخر (نؤكد هنا ضرورة تلازمهما للتنمية وليس عن إمكانية وجود ذلك في الواقع). لقد أصبحت الحدود لكل دولة المعيار الذي عن طريقه تتخذ القرارات ويتم الاعتراف بها من قبل الآخرين, كما أن وجود خلافات واختلافات حولها يمثل عامل عدم استقرار يخلق المشكلات التي تطول استثمار الموارد وحرية الأفراد وأمنهم البدني والنفسي, فلا تنمية لأي مجتمع دون الاعتراف والتعامل مع إطاره المكاني المرسوم على الأرض والمحدد بحدود ترسم علاقته مع الآخرين. هذه المقدمة (مع اختصارها وبساطتها) ضرورية لمقال اليوم الذي يناقش قضية محورية لتحقيق التنمية في مجتمعنا اليوم. ومع أنه توجد فئات لا تؤمن بالمواطنة انطلاقا من قناعات فكرية تأخذ بالأممية نهجا ومبدأ، إلا أن خطرهم محدود لقلة أعدادهم وسهولة رصدهم والوقوف في وجوههم والتغلب على آثارهم السلبية. إن الخطر الحقيقي ـــ في رأيي ـــ هو ممارسة المواطنة السلبية التي تؤمن بالوطن شكلا وتلغيه ممارسة وسلوكا, وبالتالي نصبح كما يقول المثل ''لا طبنا ولا راح المرض''. ومع أن هناك الكثير من السلوكيات والممارسات التي يمكن أن تشملها القائمة السلبية، إلا أن هذا المقال مهتم وبشكل أساس ومباشر بسلوك سلبي لا يرى كثير ممن يمارسه غضاضة في ذلك, وفي الوقت نفسه يتحرج من يشاهده أو يمقته من إثارته تحرجا أو خوفا من أن يوصم هو نفسه بالداء نفسه, لأن عينه وأذنه التقطتاه. إن السلوك السلبي المقصود في هذا المقال هو المحسوبية. ولعل مرورا سريعا على القطاعات الحكومية وما تتبعها من مؤسسات أو تشترك في ملكيتها, وكذلك في كثير من مكونات القطاع الخاص, يمكنه أن يخرج بشواهد تؤكد وجود هذه المعضلة, خاصة في المواقع القيادية أو المؤثرة. وكلما كان رأس الهرم يشغل موقعه فترة طويلة كان الواقع المؤلم أكثر وضوحا وبجاحة في تحدي الفهم السليم للمواطنة القائمة على العدالة والمساواة بين الجميع. وهنا يجب أن نوضح أن معيار الكفاءة ليس مغيبا أو متجاهلا بشكل كامل في اتخاذ القرار لدى هذه النماذج التي أوردناها, لكن عامل المحسوبية له وجوده واعتباره في استقطاب وترقية الأشخاص واختيارهم للمواقع المهمة ذات القيمة المادية والمعنوية. ولعل من أطرف المبررات التي يسوقها من وقع في براثن المحسوبية وكذلك المدافعون عنها، أنه يصعب معرفة الكوادر من خارج المحيط الاجتماعي لعدم وجود مراكز معلومات يمكن اللجوء إليها عند الحاجة. إلا أن هذا العذر لم يعد مقبولا في هذه المرحلة من مسيرتنا التنموية, كما أنه يؤكد من جانب آخر ما يهدف إليه المقال, حيث يقرر ــ إذا أخذنا بصحته ــ أننا حتى في حياتنا الاجتماعية بدأ بعض منا يفضل أن يعيش في ''محميات'' اجتماعية ضيقة يحدد أطرها المنطقة أو القبيلة أو العائلة. وهذا والله عيب كبير ووصمة عار يفجع كل عاقل عندما يراها أو يسمع بها. بل إن الأمر وصل إلى حد نوعية السكان في الحي وأن بعضها مغلق على نوعية معينة ذات مواصفات خاصة. ولعل هذه المعضلة وصلت إلى مداها المضر في تطورنا إلى حد أن المسؤولين في كل منطقة من مناطقنا الـ 13 والمحافظات يغلب عليهم ويفضل أن يكونوا من أهل المدينة أو المحافظة أو على أقل تقدير من أهل المنطقة واختفى نتيجة لذلك التمازج والتنوع السكاني الذي كان يسود في السابق عندما كنا أقل تعليما وأقل انغلاقا. إن هذا السلوك المنحرف وصل إلى حد التبجح بكتابة مفردات عفا عليها الزمن على سيارات الأجيال الصاعدة ورجال المستقبل وأمل الوطن. أفلا يدفع ذلك كل ذي عقل سليم إلى رفع البطاقة (الكرت) الحمراء في وجه أهل هذا السلوك مهما كانت دوافعهم ومبرراتهم وسواء كان ذلك فعلا أو رد فعل, فالخطأ خطأ والوطن فوق الجميع.
وفي النهاية يجب أن نكون صادقين في أننا إذا لم نتحرك للقضاء على هذه السلبية الخطيرة فإننا سنجد أنفسنا نعيش في بحيرات راكدة لا تتعرض للمياه الجارية, وبالتالي يصبح ماؤها آسنا لا حياة فيه أو قد يتعرض للتبخر نتيجة الشمس الحارقة المسلطة من السماء! إن كل واحد منا معني بمحاربة المحسوبية والعنصرية سواء في مجلسه أو مكتبه أو مؤسسته. وفي الوقت نفسه فإن كل واحد منا له دوره في هذا الواقع المشين ولو بجريمة السكوت عنه, وبالتالي ينطبق علينا مقولة ''كلنا في الهم شرق''.

ماذا لو؟
ماذا لو تم إنشاء مركز بناء القيادات يرتبط بمجلس الوزراء وتديره كفاءات علمية وإدارية, ويختار للالتحاق به سنويا من يتوسم فيهم صفات النبوغ والقيادة من مناطق المملكة كافة, بحيث يتم تأهيلهم لمدة ثلاث أو أربع سنوات وضمن أنظمة وإجراءات مناسبة. إن القيام بهذه الخطوة سيوفر قاعدة كبيرة من الكوادر تأخذ مواقعها في المكان والزمان المناسبين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي