عودة إلى الـ «ويكيليكس»
شغلتنا برقيات وقصص «الويكيليكس» كما شغلت العالم أجمع فترة من الزمن ليست بقصيرة. وقد أعقبتها عواصف شتى في تونس ومصر والبحرين واليمن وليبيا، وربما في دول أخرى لم تتصاعد فيها الأحداث إلى درجة الاحتقان أو الانفجار.
ويعزو كثير من المراقبين بعض ما حدث لهذا الكشف عن حقائق ظهر فيها المسؤولون بمظهر الخونة، أو أنها أماطت اللثام على تعاملات غير سوية مع قضايا استراتيجية حيوية، وقد لاحظ المحللون السياسيون قلة الوثائق والأسرار التي تم إفشاؤها عن إسرائيل، كما أن الكم الهائل من الأسرار الأمريكية كان تافها ولم يتناول عظائم الأمور.
فالبرقيات الدبلوماسية الأمريكية التي نشرها موقع «ويكليكس» تغطي اتصالات عديدة لدبلوماسيين أمريكيين في إسرائيل تتناول الشرق الأوسط وقضايا تتعلق بالقدس. ويرى بعض المختصين أن معظم هذه البرقيات كانت بمنزلة قنابل ضوئية استكشافية للتعرف ــ عبر الأجهزة الاستخباراتية ـــ على ردود فعل جميع التوجهات والفصائل العربية. ونادرا ما كان لهذه البرقيات أهمية في فهم العمليات السياسية في إسرائيل.
وثمة ملاحظة مهمة أن «الويكيليكس» لم تتطرق إلى مواقف القيادات العليا حتى إذا ناقشها أحد قيل له إنها مجرد أفكار يجري طرحها في المطبخ ولم تصل بعد إلى حد النضج.
وإذا توقفنا أمام ملفات بعينها فسنبدأ بالملف الإسرائيلي ــ الفلسطيني، والملاحظة البارزة أنها برقيات قليلة، بل إن أهم البرقيات هي التي تركز على مدى اهتمام الجانب العربي ومحاولة هذه البرقيات أن تربط بين الصراع العربي ـــ الإسرائيلي وبين موقف الزعماء العرب من إيران، وهي أولوية إسرائيلية لا ندري هل قام أسانج بدسها أم أنها الحقيقة، فما من برقية إلا وتتوقف أمام إصرار الزعماء العرب على تقويض محاولات إيران لفرض تأثيرها وزعزعة الاستقرار الإقليمي. وبعض البرقيات كانت تركز على حماس في غزة وعلاقتها بإسرائيل، وفي هذا الإطار لم تضف البرقيات شيئا يذكر، ولكنها توسعت في سرد تفاصيل لم تحظ بتغطيات واسعة في وقتها.
من أهم ما كشفته «الويكيليكس» أن إسرائيل حاولت تنسيق عمليتها العسكرية في غزة مع كل من مصر والسلطة الفلسطينية في رام الله. ففي محتوى برقية سرية أرسلت من تل أبيب ذكر لويس مورينو نائب السفير الأمريكي في تل أبيب أن وزير الدفاع الإسرائيلي أيهود باراك أبلغ وفدا أمريكيا زائرا من الكونجرس أن إسرائيل أبلغت كلا من مصر والسلطة الفلسطينية بالرغبة في التعرف على موقفهما بشأن قبول ضم غزة بعد هزيمة «حماس»، ولكن باراك قال إن كلتيها رفضت، وأنكر مسؤولو السلطة هذه القصة.
برقية أخرى عن رئيس الشاباك (وهو جهاز الأمن الإسرائيلي) يوفاك ديسكين يقول فيها إن (فتح) طلبت عام 2007 مساعدة إسرائيل لمواجهة قوة «حماس» المتزايدة، وأضاف ديسكين واصفا السلطة «أنهم يقتربون من نقطة الصفر ويطالبوننا بالهجوم على «حماس»»، إنهم في حالة يأس كامل». وامتدح الرجل في برقية أخرى لـ «الويكيليكس» ما يلقاه من تعاون أمني مع السلطة الذي ينطوي على المشاركة في المعلومات.
وكشف ثالث يتعلق بقضية تزويد إيران لحماس بالأسلحة في غزة، ففي برقية بتاريخ 22 كانون الثاني (يناير) عام 2009 ظهر طلب للولايات المتحدة من حكومة السودان لإيقاف رحلات الطيران التي تمر في أجوائها حاملة معدات عسكرية لـ «حماس». وفي الشهر نفسه، وردت أنباء عن قيام إسرائيل بشن هجمات جوية على قافلة أسلحة في البحر الأحمر في منطقة السودان.
وظهرت برقيات تعرب عن قلق المصريين من التهريب عبر الأنفاق التي أظهرت كراهية حسني مبارك الشديدة لإيران لقيامها بمحاولات هز الاستقرار في مصر والمنطقة العربية.
كشفت برقيات «ويكيليكس» كذلك تفاصيل محادثة بين السفير الأمريكي في إسرائيل ريتشارد جونز ورئيس المخابرات الحربية الإسرائيلي عاموس يادلين حول التعامل مع «حماس»، وبرقيات أخرى تكشف الإجراءات التي تتخذها إسرائيل لإضعاف كيان «حماس» في غزة. ومنها البرقية التي أظهرت الخطة التي وضعها رئيس مكتب مكافحة الإرهاب داني أرديتي بإنشاء وحدة نقدية مخابراتية فلسطينية لتتلقى أمولا إضافية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع تقليل المبالغ التي ترسل إلى قطاع غزة. وهو مخطط لوضع الاقتصاد في غزة تحت الضغط دون السماح بانهياره تماما.
وهناك وثيقة تتناول هذا الموضوع بالتفصيل في الثالث من كانون الأول (ديسمبر) 2008، حيث تظهر أن الهدف من الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة (قبل عملية الرصاص المصبوب مباشرة) هو وضع الاقتصاد في أدنى درجاته مع عدم الوصول إلى كوارث بشرية، وقد تم تخفيف الحصار فيما بعد تدريجيا.
هناك برقيات تكشف عن الفساد الإسرائيلي، حيث ورد في وثيقة عن صحيفة أفتن بوستن النرويجية أن الولايات المتحدة تشعر بقلق بالغ؛ لأن المسؤولين الإسرائيليين كانوا يطلبون أموالا من الموزعين الأمريكيين مقابل السماح بدخول البضائع إلى غزة.
وفي برقية لريتشارد جونز السفير الأمريكي في إسرائيل يذكر أن رجال الأعمال الأمريكيين طلب منهم دفع ثلاثة آلاف دولار لتحويل البضائع إلى قطاع غزة. وهو مبلغ يزيد 75 ضعفا على المبالغ المقررة رسميا. وردت إسرائيل بأن الأفراد الذين كانوا يطلبون هذه الرشوة ليسوا من موظفي حكومة إسرائيل، وإنما هم من موظفي شركات تعمل كوسيط للمسؤولين العسكريين والمدنيين.
أظهرت «ويكيليكس» عددا من البرقيات والوثائق تتعلق بإسرائيل وإيران، والمعروف أن «ويكيليكس» ركزت بشدة على القلق الشديد لدى عدد من دول الخليج إزاء إيران وطموحاتها الإقليمية. وكانت هذه البرقيات بمنزلة مبرر للإسرائيليين للتدليل على صدق مطالبهم تجاه إيران ووضع إيران في صورة الشيطان الذي سيقلب كيان المنطقة. حتى إن صحافيا إسرائيليا هو سيفير بلوكر كتب يقول: «لو لم توجد ويكيليكس لقامت إسرائيل باختراعها». وهو تصريح يلمح إلى الكثير.
وقد ثارت زوابع في وسائل الإعلام الإسرائيلية حول ما قامت به بعض وسائل الإعلام العربية من ربط بين «الويكيليكس» والمصالح الإسرائيلية بما يجعل أسانج صاحب «الويكيليكس» شريكا لإسرائيل. وهناك التأكيد على العداء العربي ـــ الإيراني الذي يكاد يكون عاملا مسيطرا في الوثائق، وهو الذي يلقي بأصابع الشك في وجه إسرائيل، لأنها المستفيد الأول من ارتطام أو صدام إيران بالعرب.
وفيما يتعلق بالبرقيات الصادرة عن إسرائيل وحزب الله برقية من وزير الدفاع اللبناني السابق إلياس المر ينصح فيها أيهود باراك عبر الولايات المتحدة لتقوم بعمليات عسكرية واسعة النطاق ضد حزب الله.
وتصف الوثيقة مقترح المر والتفاصيل الخاصة بموقف الجيش اللبناني في أثناء مثل هذا الهجوم. وهناك برقية أخرى يطلب فيها المر عدم التعرض للبنية الأساسية (جسور ـــ ومعابر وغيرهما) في لبنان. وقد نشرت صحيفة «الأخبار» الموالية لحزب الله هذه البرقيات لإحراج خصوم حزب الله في لبنان.