نحو شارع مهمل وعمارة قبيحة

كانت القاهرة في خمسينياتها وأوائل الستينيات مدينة جميلة رائعة وجذابة، نسمتها ولمستها نيلية منعشة يغمرها مزيج من الإغراء والتغلي. فيها الكثير مما يثير لغرابته أو لجماله، حيها التجاري تحتضنه مسحة من الفخامة والجِدَة في حلة بهيجة، عمرانها باريسية وتصميمها أوروبي الفخامة، متاجرها الفاخرة تشعرك كما لو كنت في باريس أو لندن. في حي جاردن سيتي، لا يمل التجوال الكسول على أرصفة هذه الأحياء الناعسة وزواياها التجارية الملتوية الجذابة وعلى الدوام نظيفة وفارهة، شاهدتهم من بلكونتنا ينظفون الشارع بالصابون صباح كل يوم. أتذكرعمائرها ومداخلها البهيجة بتصاميم داخلية رائعة تتصدرها مرآة أو مرايا تتيح لك ولغيرك التهندم داخلاً كنت أم خارجاً، يستقبلك بواب نوبي في حلته المزركشة، لتدلف إلى شقة جميلة تحب أن تزور أو تُزار فيها.
سبحان الذي لا يتغير.. ولم تنته الستينيات إلا وتتغير القاهرة وتنكفئ رأساً على عقب لتكون من أكثر مدن المنطقة فوضى وقذارة وعشوائية، فقدت السيطرة على تخطيطها وتوسعها وزبالتها ونظامها ومرورها ومواصلاتها وحتى هواءها. التجوال في أحياء المدينة سائحاً كنت أو متسوقاً مجازفة صحية، وإن عدت سالما فلا أقل من أن تسلخ كل ما عليك من ملابس ثم حمام ساخن ليجلي ما بقي. عمارها الأثري منها والأوروبي لا تميزه من شناعة التلوث. أطاحت قذارة شارع قصر النيل برومانسيته، وذهبت فوضى وقذارة الخان بعبقه وموزاييكه التاريخي. وكان لذلك أسباب أهمها أن الانقلاب الذي أودى بنظامهم الملكي، أتى معه بتغيرات شاملة اجتماعية واقتصادية، منها المد الاشتراكي ومخالب تأميمه التي انتزعت حتى العمائر، وتجميد الإيجارات على ما كانت عليه في الأربعينيات، بإيجارات متواضعة عشرة - 15جنيها شهرياً، بل سنوياً في بعض الأماكن، أخذت حقوق الناس غصباً واغتصاباً، فأُهْملت المدينة وأمها المهاجرون. كثافتها تضاعفت بفئاتها الفقيرة، عشوائيتهم طبعت القاهرة بفوضويتها، العمائر شوهت، البناء قد يتم بدون ترخيص أو بدون التقيد بالشروط والمواصفات، انهيار أو سقوط العمائر أمر وحدث صار معتادا، دخلت المدينة في نفق مظلم من القذارة والفوضى. لأن إدارة الملاك لم تنـجح في حماية مبانيهم، السكان لا يدفعون ما عليهم من رسوم والقانون أُريد له ألا يكون واضحاً، فأهملت العمائر وساءت الشوارع. التراسات والبلكونات حتى النوافذ..! تمت إضافتها إلى الشقق بشكل مشين ومشوه و متفاوت في الطابق الواحد ومن طابق إلى آخر، تعددت وتنوعت التشوهات والتعديات والإحداثيات الشاذة، المداخل مكسرة، الجدران تساقط أسمنتها وعُريت أسلاكها وحديدها. فقد العمار والشارع ترابطهما وتحولت الشوارع إلى الإهمال والعمارة إلى القبح.
استعادتي تجربة القاهرة في هذا السياق ليست لاجترار رومانسية الماضي والزمن الجميل, إنما هي للعبرة.. مدننا لم تتعلم من تجارب الآخرين.. ولا من فشلهم وأخطائهم. لا يرضينا ما حدث للمدينة في مصر وغيرها من تجمعاتنا العربية. لكننا نرى بوادر وبائها قد دلف إلى مدننا وشوارعها وعمارها ومعه الإهمال والتشوه الداخلي والخارجي وضعف تجهيزات الأمن والسلامة، المداخل لا تقفل، والمياه المتسربة والزبالة في كل مكان. الأشنع من هذا كله، من يرغب في ترميم منزله قد يستحل الشارع لمواد البناء أو بقاياها.
إذا كان ما حدث هناك سببه استبدال حكم فاعل بآخر ظالم، فإن ما حدث أو ما قد يحدث من إهمال مرتقب لمدننا سببه سوء الإدارة ومركزيتها، الأمانات وبلدياتها تهتم بالمشاريع التي عادة ما تكون ضعيفة التنفيذ، والصيانة الوقائية تُهمل لتتراكم لتكون مشروعاً، لا يهتمون باللوائح ووضع الأنظمة ومتابعتها. علاقة الأمانة بالمدن انتقائية وجزئية يهتمون بجزء ويهملون الآخر، الذي لا ميزانية له لا راعي له!
هناك حديث عن أن الصندوق العقاري سيمول تملك الشقق، وهذا ما حدث من قبل للإسكان العاجل. وهذا جيد وأكثر جدوى وفاعلية من المنح وقروض البناء، وتمويل شراء الشقق يتيح لطبقة واسعة من الشعب تملك منزل، ومنهم ذوو الدخل المحدود الأهم والأحوج. بناء الشقق وتمويلها اتجاه سديد، ولقد ازدهر في جدة والمنطقة الغربية عموماً، وبدأ ينتشر في بقية المملكة. تمويل الشقق الوسيلة الفاعلة لزيادة نسبة تملك المواطن السعودي للسكن التي تقدر بـ 30 في المائة، ويجب ألا يتقيد هذا التمويل بمشاريع الإسكان الحكومي، بل كذلك المشاريع الخاصة، أعني أن التمويل يجب أن يشمل شراء شقق من القطاع الخاص.
علينا أن نعي جيدا أن هذا التطور سيؤدي إلى نمو مدن العمائر .. كتل أسمنتية لتكون الطابع الغالب على مدننا، هذا التطور له سلبياته، أهمها ارتفاع معدل الكثافة السكانية/كم، في هذه المجمعات، وإذا ما تركنا السلبيات الاجتماعية جانبا لذوي الاختصاص، فإن هذه التجمعات تتطلب قواعد صيانة ومعايير نظافة محددة وإشراف ومتابعة دقيقة ومنضبطة، العمائر يجب أن تُصان من الداخل والخارج، ولا تتم إحداثيات داخلية أو خارجية دون إذن، وأن يفرض مستوى صيانة وشروط أمن وسلامة بمواصفات عالية، وأن تُكلف جهة مختصة بوضعها وتطبيقها وتنفيذها! ويمكننا أن نستفيد من تجربة الإسكان عندما تتم تقسيط شققه على المواطنين.
هل نظام الملاك الفاشل الذي لا يزال يعمل به في مصر سيطبق لدينا؟ إذا ما توزعت ملكية العمارة إلى شقق .. من الذي سيدير أمور العمارات؟ في حال إخلال صاحب شقة بما عليه.. من المرجعية؟ من الذي سيتولى حماية مدينتنا مخبرا ومظهرا؟ إن مدننا تتشوه وتزداد سوءاً.
من مشاهداتنا العامة، أمانات المدن في المملكة لا تتابع ولا تتدخل أو لا تقوم بهذا الدور الرقابي. لا توجد حتى الآن ''أحكام ولوائح'' تحكم هذه الأوضاع ولا مرجعيةً لها .. هل هي البلديات؟ أم الدفاع المدني؟ إدارة الشرطة؟ أم في كل حالة سيحيلك المسؤول إلى القضاء..! يجب أن يُدرس هذا الموضوع المعقد لحاضره ومستقبله بدقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي