الاقتصاد والأمن الوطني

كتبت في ''الاقتصادية'' الغراء بتاريخ 1/2/2011 الموافق 28/2/1432هـ مقالا بعنوان: مصر وتونس والنمو والتنمية، ذكرت فيه أن هناك فرقا بين النمو وتراكم الثروة الوطنية التي تقاس بالناتج المحلي الإجمالي، والتنمية التي تقيس مدى استفادة الغالبية العظمى من السكان من هذه الثروات بتحسين مستوى معيشتهم وظروف حياتهم وتحقيق تطلعاتهم في العمل والسكن والصحة والتعليم، وإن هذا هو المقياس الحقيقي وليس تراكم معدل نمو الناتج المحلي الذي يركز عليه كثير من الاقتصاديين، ويشير إليه صندوق النقد الدولي كمقياس وحيد ومعيار أساسي بين الدول ويشاركه فيه البنك الدولي الذي يقارن بين نجاح الدول الاقتصادي بنسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي، ويميز بين الدول الناجحة والفاشلة اقتصاديا حسب وجهة نظر هذه المؤسسات الدولية على أساس هذا المعيار الوحيد، كما ذكرت أن مصر وتونس كانتا محل إعجاب البنك وصندوق النقد الدوليين، حيث حققتا نسبا زادت على 5 في المائة من النمو في الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من مرور العالم بأزمة مالية واقتصادية، وذكرت أن هذا التركيز في غير محله؛ لأنه يقيس فقط النمو وليس التنمية، Growth وليس Development، وأن كثيرا من الاقتصاديين القدماء يفرقون بين هذين المصطلحين في النظرية الاقتصادية.
هذا الأسبوع وفي تصريحات لكل من البنك وصندوق النقد يشيران إلى هذا الخطأ في التركيز، ويذكران الشرق الأوسط وتونس ومصر بالتحديد كمثال على خطأ ذلك التركيز، كما ذكر ذلك رئيس صندوق النقد في صحيفة ''الفاينانشيال تايمز'' ومدير البنك الدولي في تقرير التنمية وفي التصريحات الصحفية.
وفي كلمة ألقاها مدير عام صندوق النقد الدولي بتاريخ 4 نيسان (أبريل) 2011 السيد ستراوس كان في جامعة جورج واشنطن في العاصمة الأمريكية قال ''إننا نحتاج إلى شكل جديد من العولمة، شكل أكثر عدالة، وعولمة لها وجه أكثر إنسانية، وثمار النمو يجب أن تعم الجميع ولا تنفرد بها قلة محظوظة، وبينما يجب أن تكون السوق في بؤرة الاهتمام، فمن الضروري ألا تتحول يد السوق الخفية إلى قبضة خفية. كما دعا ستراوس كل صناع السياسات إلى توجيه اهتمام أكبر لعدم المساواة والتجانس الاجتماعي قائلا: ''إن المزيج المدمر الذي يجمع بين ارتفاع البطالة وارتفاع عدم المساواة لفترة مطولة يمكن أن يضع ضغوطا على التجانس الاجتماعي والاستقرار السياسي، وهو ما يؤثر بدوره في استقرار الاقتصاد الكلي، وأن عدم المساواة الذي كان عاملا مؤثرا في الشرق الأوسط ربما كان أيضا من الأسباب الجذرية وراء الأزمة المالية العالمية، وأن النمو العالمي القابل للاستمرار يرتبط بتوزيع الدخل على نحو أكثر عدالة''.
وأقول للسيد ستراوس وللسيد زوليك مدير عام البنك الدولي الذي حذا حذوه في هذا المجال والنظرة الجديدة: أفيقا من النوم فقد كنتما تكيلان المديح لكل من تونس ومصر ولم تشيرا إلى هذه النظرة الجديدة القديمة، نعم القديمة، فالنظريات الاقتصادية التي درسناها في الستينيات كانت تشير بوضوح إلى أهمية التفريق بين النمو والتنمية، حتى إن بعضها أشار إلى مقياس السعادة وهل هو الغنى المادي أم المعنوي، وانجرّ بعض الاقتصاديين في نظرياتهم إلى جدل بيزنطي حول قياس السعادة وصعوبة ذلك، بينما كان الواقعيون يشيرون إلى مقاييس سهلة مثل عدد الأسرّة في المستشفيات ونسبتها إلى السكان لقياس الخدمات الطبية، وكذلك عدد ونسبة الأطباء إلى عدد السكان ونسبة وجود المياه الصالحة للشرب، وعدد ونسبة المدرسين إلى الطلاب والمدارس وشمولية التأمين الصحي ونسبة تحقيق المساواة في الدخل إلى آخره من معايير التنمية، وليس فقط النمو الذي ركز عليه الصندوق والبنك الدوليان وتم إغفال مؤشر البطالة والفقر وسوء توزيع الموارد وتقلص الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية المذكورة.
إن العالم العربي الذي حباه الله ثروات عظيمة يمكن أن يحقق التنمية المستدامة باعتماد سياسات اقتصادية تأخذ في الاعتبار مراكز القوة ونقاط الضعف في الاقتصاد، وأن ثقة المواطن بنفسه وقدراته وحرصه على كرامته وأمنه جزء لا يتجزأ من التنمية، وأن الحرية الاقتصادية جزء من الحرية السياسية والإصلاح جزء لا يتجزأ، وثورة الاتصالات والمعلومات جعلت الكل يرى ما لدى غيره. ومن العار التخلف في التنمية عن دول لا تملك نسبة من الموارد المالية والاقتصادية التي يملكها العرب، فلدينا الموقع الجغرافي الفريد والطقس المناسب معظم السنة والثروة السياحية والمساحة الجغرافية والثروات البكر التي لم تُكتَشف، وأهم منها جميعا الثروة البشرية ورأس المال البشري من الشباب، ويكفي أننا نتحكم في التجارة بين الشرق والغرب جغرافيا.
والأمن الوطني الذي يقاس عادة بحماية الوطن عن طريق تطوير جيش قوي لحماية الحدود من التهديدات الخارجية وجهاز أمني للحفاظ على الأمن الداخلي ومكافحة التهديدات الخارجية، هذا الأمن يجب أن يتطور مفهومه وأن يدرك المخططون له أن التنمية الاقتصادية، وليس فقط النمو، هي من أهم الأدوات لحفظ الأمن الوطني، وأن التنمية بمفهومها الاقتصادي من تحسين فرص العمل وتقديم الخدمات وتحسين مستوى المعيشة ومحاربة الفقر وتحسين توزيع الدخل الوطني ومكافحة الفساد هي أساس التقدم وركيزة الاستقرار ومعيار الأمن الوطني الذي لا يستقيم دون تحقيق هذه التنمية.
والله الموفق،،

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي