الأسرة والزواج.. قواعد الحوار الأسري (1 من 2)

الحوار هو الجسر والمعبر الذي من خلاله يتم التواصل بين البشر. وسيبقى الإنسان يعيش مشكلة الحوار ما دامت الثقافة معطلة أو غير فاعلة في منطقة القلب، حيث تستوطن الأحاسيس وتصنع العواطف وتستقر المشاعر. فإذا كانت الثقافة تتكفل في العادة بتعديل المعوج من الفكر بفعل ما تنقله للإنسان من قيم عالية ومبادئ سامية ورؤى شمولية للحياة، فإنها مدعوة هذه الثقافة لتمارس الدور نفسه في حركة الإنسان العاطفية وتواصله مع الآخرين. ولعل الرجل، الزوج، وهو يمد حبال يديه ليحتضن المرأة، الزوجة، إلى عالمه حيث تختزل المسافات بل تتلاشى لتأخذ مكانها مساحات وقارات من الأحاسيس والعواطف، فإن ثقافة الحوار هي التي ستنشر السلام في هذا العالم وهي التي ستتكفل بجعل مساحاته وصحاري قاراته حدائق غناء.
نعم إن الزواج هو العلاقة الأقدم في حياة الإنسان، وخبرة الإنسان تختزن الكثير فيما يخص هذه العلاقة، ولكن يبقى الزواج محطة مهمة ينتظرها الإنسان بخليط من الأفكار والعواطف، فهناك خوف وفرح، وهناك ترقب وقلق، وهناك انتظار لسعادة ومعه توجس من مسؤولية قادمة، وهناك تطلع ولهفة وشوق للتغيير القادم في الحياة، ولكنها لهفة مصحوبة بخوف من المستقبل. ولعل هناك الكثير ممن ينظر إلى الزواج على أنه هو صراط هذه الدنيا، فإما ينتهي بالإنسان إلى السعادة وإما يسقط به إلى حيث الفشل والتعاسة. ولعل هؤلاء أدركوا بفطرتهم أن الزواج هو ارتباط نفسي بالدرجة الأولى، وأن السعادة والشقاء هما تعبير نسبي لما يعتلج النفس من حالات. والآية الكريمة، رقم 21 من سورة الروم تقول ''ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون''، هذا الزخم النفسي الذي تعطيه الآية الكريمة لموضوع الزواج، ''من أنفسكم''، ''لتسكنوا''، ''مودة ورحمة''، هو تأكيد قوي على ما يتمتع به الزواج من بُعد نفسي وتواصل عاطفي. ولا يعني هذا أبدا أن الزواج هو بناء عاطفي فقط. وانطلاقا من هذا الجانب العاطفي والنفسي في العلاقة الزوجية، فإن النجاح في الزواج يقتضي منا أن نجيد الاتصال العاطفي بالطرف الآخر بما تعنيه كلمة الاتصال من قدرة على إيجاد حضور إيجابي لنا عند ذلك الآخر. ولا يمكن أن ينجح الحوار أو يتحقق من دون تأسيس بيئة حوار جيدة وسليمة في داخل الأسرة. والتأسيس المقصود هنا هو الذهاب بعيدا في داخل النفس لإعادة تشكيل بعض الأفكار والقناعات فيما يخص الحوار وما يرتبط بعلاقة الرجل بالمرأة ومن ثم بناء جملة من المبادرات من أجل تشكيل الواقع الخارجي.
فهناك مجموعة من القواعد المهمة عن ثقافة الحوار في الأسرة ولا بد من فهمها واستيعابها حتى يكون هناك فعلا بيئة نفسية سليمة لممارسة الحوار نفسه، وهذه القواعد بشكل موجز:
1- الحوار وعاطفية المرأة: من غير حاجة للحديث والبحث عن خصوصية كل من المرأة والرجل، المرأة بتكوينها النفسي الفطري تجيد لغة العواطف أكثر بكثير من الرجل، وبالتالي يكون الحوار مطلبا مبررا ومفهوما للمرأة، وعلى الرجل أن يلتفت لهذا في بناء علاقته بالمرأة. وإذا كانت العاطفة تعني مقدار تفاعل الإنسان مع الحدث الذي يعيشه، فهذا يعني أن المرأة أكثر انفعالا وبالتالي يكون الحوار هو الأداة لتلطيف هذا الانفعال وتفريغ شحنته، وعندها تعود نفسية المرأة إلى الحالة الطبيعية من التوازن. ولعل عدم التفات الرجل إلى هذه الحقيقة هو الذي يدفعه إلى توجيه الاتهام للمرأة بأنها رومانسية ومولعة بالثرثرة.
2- الحوار ومعرفة الآخر: الإنسان بطبيعته وفي الأخص عندما يريد أن يعبر عن حاجاته يستعين بلغة الرمز والإشارة وخلط الأمور وينتظر من الطرف الآخر أن يفهم كل ذلك فيتحسس ذلك الآخر بمشاعره وأحاسيسه. وعلاقة المرأة بالرجل تتشكل في الكثير من جوانبها في إطار هذا المفهوم، وبالتالي يصبح الحوار ضروريا لأن لغة الإشارة والرمز والتشكي من أمور أخرى عندما لا تفهم، فإنها باب للدخول في مشكلات أخرى قد يتجاوز حجمها وعواقبها المشكلة الأصلية. فالمطلوب من الرجل أن يحسن الاستماع للمرأة ليعطي لنفسه الفرصة لمعرفة ما بعد الشكوى، وعندها قد نكتشف أن الحل هو في كلمة حلوة أو وردة نهديها لها أو لمسة تعيد لها الدفء وتشعرها بالأمان، وبعد قد نتذكر أو لا نتذكر المشكلة الأصلية لأنها ربما في الأصل هي غير موجودة وما كان هو مجرد تراكم لرسائل غير مقروءة.
3- الحوار لا يستثني أحدا: إذا كان الأساس في الحوار هو وجود الآخر، فالمقصود بعدم الاستثناء هنا هو أن المرأة تبقى في حاجة إلى الحوار مهما كان شكل المرحلة التي تعيشها وطبيعة الظروف التي تحيط بها. والذي يختلف بطبيعة الحال هو أسلوب الحوار باعتبار أن الأسلوب وأدوات الحوار الناجح، هو نتاج للحظة التي يعيشها الإنسان. فالمرأة مهما كانت خلفيتها التعليمية والثقافية والأسرية والاجتماعية قادرة على تطوير مهاراتها في الحوار بشرط أن نجيد نحن معاشر الرجال لغة الحوار، وأن تعطى المرأة الفرصة الكافية لتجاوز مخاوفها وشكوكها بعلاقتها بالرجل.
4- للحوار أشكال متعددة: المحاور الجيد هو الذي يجيد توظيف عدة أشكال من الحوار، فالكلمة الطيبة والرقيقة تزداد رقة عندما تصحبها نظرة حانية ولمسة دافئة. وحتى الحوار الذي يتطلب توجيه نوع من اللوم والنقد للمرأة، فإنه يكون أكثر إيجابية وأوقع أثرا عندما يفرش في طريقه كلمات حب ولمسات حانية. كلما أجاد الرجل في إنتاج أشكال متعددة من الحوار كانت فرصته أكبر في بناء علاقة أكثر قربا وأكثر حبا وأفضل شكلا مع زوجته. وفي المقابل تضعف علاقة الرجل مع زوجته وربما تنحدر وتصل إلى حد الانفصال أو حتى الطلاق عندما يفشل هذا الرجل في تطوير وإنتاج أشكال متعددة من الحوار، لأن البقاء على شكل واحد أو عدد محدود من أشكال الحوار لا يكفي لاستيعاب واحتواء العلاقة بين الطرفين، فالعلاقة بين الزوج وزوجته تتسع وتكبر كلما امتد العمر في العلاقة بينهما، وبالتالي لا بد من أن يقابل هذا الاتساع في العلاقة اتساع آخر وهو اتساع في نوعية وتعدد أدوات الحوار بين الطرفين.
5- الحوار في الاختلاف والاتفاق: قد يظن البعض أن وظيفة الحوار هي فقط لتجاوز الخلاف وننسى جانبا مهما وهو وظيفته تعميق الاتصال بين الطرفين. ومن أجل أن نجيد فن الحوار في حالة الخلاف، علينا أن نمارس الحوار حتى في الحالات غير الخلافية. قد لا يوجد هناك خلاف بين الرجل وزوجته بخصوص القيام بعمل معين مثل شراء حاجة معينة للمنزل، ولكن طرح هذا الموضوع للنقاش هو فرصة لممارسة الحوار بين الطرفين، وفي ظل عدم الاختلاف ووجود الأجواء الهادئة تتاح الفرصة للطرفين لتعميق تجربتهما في الحوار.
هذه هي ربما بعض أهم القواعد التي لا غنى عنها في التأسيس لثقافة الحوار الأسري، يبقى هناك جانب مهم وهو الجانب الذي يخص متطلبات الحوار الأسري، فخصوصية وتميز علاقة الرجل والمرأة في إطار الزواج، تحتم علينا أن نحيط هذه العلاقة بشكل معين من الحوار، حوار يأخذ شكله وتتحدد أبعاده وتتشكل تفاصيله انطلاقا مما يحدثه الزواج من تشابك نفسي وارتباط عاطفي بين الرجل والمرأة. وهذه المتطلبات ستكون مدار حديثنا في الأسبوع المقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي