المصالحة والمصارحة ومبادرات السلام

تشهد الساحة الفلسطينية حركة متدفقة على جميع الأصعدة. فحماس وفتح أي السلطة الفلسطينية قد اقتنعتا أخيراً بأهمية توحيد الصفوف، ويرى المراقبون أن هذا التقارب جاء بناء على نتائج سنوات طويلة من الأخذ والعطاء والشد والجذب. لقد اقتنعت السلطة الفلسطينية بأن إسرائيل لن تعطي الكثير، لأن هاجس حماس يشغل بال القيادة الإسرائيلية، ولذا فهي تفضل الحالة الراهنة: أي تجميد كل شيء.
وحماس تشهد مرحلة مهمة خاصة بعدما تابعت ما يحدث في سورية والخوف من تعرضها للوقوع في العراء في مواجهة إسرائيل.
وعلى كافة الأحوال فإن إسرائيل تتعرض لضغوط دولية قوية لتقدم مبادرة سلام، وبدأت أصوات تتصاعد في إسرائيل تطالب بالانسحاب الإسرائيلي الشامل إلى حدود 1967 وإلى تقسيم القدس مع إجراء تبادلات طفيفة في الأراضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وقد أعلن بنيامين نيتنياهو أنه على استعداد للتقدم بمبادرة أثناء زيارته القادمة لواشنطن. ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بالحظوظ العريضة التي ستقوم عليها هذه المبادرة وإن كانت هناك توقعات بأنها ستحمل تنازلات إسرائيلية طفيفة.
غير أن رفض السلطة الفلسطينية الدخول في مفاوضات مع إسرائيل يرجع إلى عدة أمور أهمها: شعورها بالضعف وذلك إلى جانب يأسها من التفاعل الإسرائيلي الجاد لكسب خطوة جديدة إلى الأمام. لا يدخر الإسرائيليون وسعا في إقناع السلطة بأنها تسيطر بالكاد على الضفة الغربية ولا نفوذ لها في غزة.
ولكن النقطة العجيبة في هذا الإطار هي إقناع العالم بأن السلام الإسرائيلي ـــ الفلسطيني أصبح متاحاً بعد التحولات التي أمسكت بزمام المنطقة.
حقاً إن الصراعات ذات القواعد الدينية لا تنتهي بسرعة مثل إيرلندا وناجورنو كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا وكشمير وغيرها، وقد يتطلب الأمر أجيالاً أخرى لرأب الصدع. ولكن إيقاع السرعة الذي عرف طريقه إلى الشرق الأوسط قد يكون علاجاً لهذه الحالة.
والمحزن بالنسبة لعشاق السلام أن الإسرائيليين والفلسطينيين يدركون عبر استفتاءات واستبيانات السكان أن السلام حلم بعيد المنال.
وهنا نتساءل: ما قيمة المبادرة الإسرائيلية أو المرونة الفلسطينية في مواجهة هذا المناخ؟
الإجابة جاءت من بعض الأجنحة الإسرائيلية التي قالت إن المرونة الإسرائيلية وإن كانت تستهدف أساساً إبعاد النقد عن إسرائيل، إلا أنها قد تصنع الفرق خاصة في مواجهة واشنطن التي ملت من سياسة الدعم غير المشروط لإسرائيل. ويجري إغراء إسرائيل حالياً بفكرة أنها إذا تقدمت بمبادرة فإن أصدقاءها سيكون أمامهم المجال لتقديم مبادرات أو الدخول في وساطات تحمي مصالح إسرائيل.
ولا ننسى أن ملء الفراغ السياسي بمبادرات سيتيح مرحلة من تنفس الصعداء لإسرائيل عندما يتحدث العالم عنها بوصفها الجانب الحريص على السلام. وعلينا أن نتذكر أن أحد مقومات السياسة الإسرائيلية هو كسب الوقت على أمل أن يعطي العالم الفرصة لتفهم الموقف الإسرائيلي إلى جانب أن عامل الوقت يقلل من تشدد العرب وعنادهم ــ على حد تعبير إسرائيل ــ بمعنى أن المبادرة الإسرائيلية هي السبيل لتحقيق ذلك كله.
المثير للحرج هنا أن إسرائيل ــ في ضوء ما اعتبرته سياسة ثابتة ليس لديها الجديد الذي تقدمه للفلسطينيين ويقبلونه. ومهما خرج نيتنياهو باقتراحات فإن شهية الفلسطينيين لن تقبله.
وترى إسرائيل في مبادرات إيهود باراك سنة 2000 وأولمرت سنة 2008 سوابق غير مشجعة. وكما كشفت وثائق وبرقيات ويكيليكس فإن المعتدلين الفلسطينيين الذين أبدوا مرونة في المفاوضات السرية مع إسرائيل عانوا الكثير في محاولة إقناع مواطنيهم بقبول التنازلات لإسرائيل. وما أن نشرت هذه الوثائق حتى سارع هؤلاء الساسة إلى إنكار علاقتهم بأي تنازلات، وكان الأجدى بهم من وجهة النظر الإسرائيلية أن يطلعوا شعبهم على ضرورة تقديم تنازلات.
وقد اختلف الموقف الآن كثيرا بعد المصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينية، فسوف ينضم أعضاء من حماس إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي تدير الحوار مع إسرائيل، ووقوف الفلسطينيين بعد عام في خندق واحد سيكون له مذاق جديد، وسوف يدفع ذلك إسرائيل إلى إخراج كل ما في جعبتها للعرض الإقليمي والعالمي.
ويتوقع المحللون القريبون من المشكلة أن المبادرة الجديدة ستصدر على أساس الفكرة السائدة الآن وهي فكرة الدولتين، والتي أجمع خبراء كثيرون من الطرفين على صعوبة تطبيقها أو بالأحرى توقفوا عند نقاط مانعة كثيرة في إطارها.
فالدولة الفلسطينية ستحتاج إلى دعم عالمي مكثف، بل إن بعض الفلسطينيين طالبوا بنوع من الوصاية الدولية لإمكان دعم الدولة اقتصادياً، كما أن مرحلة النضج المطلوبة للحكم الذاتي غير موجودة في فلسطين بالنسبة للفلسطينيين كما يقول الإسرائيليون، وهذا يعني أن قوى متعددة يجب أن تتدخل لبناء دولة في كافة المجالات. والعرب من حول فلسطين يعانون معاناة شديدة من حالات من التوتر السياسي العنيف أو الفراغ لدى البعض. وهذا يعني أن اقتراح الدولتين سيلقي بدولة منهما في السلة العالمية إذا كنا نتناقش بلغة الواقع، وينصح الخبراء الغربيون المؤيدون لإسرائيل الحكومة الإسرائيلية - وبالتحديد بنيامين نيتنياهو ـ بأن يعلن عن العديد من الإجراءات التي يمكن أن تسهم في تلطيف الجو وتحسين الصورة وتشجيع التلاقي القائم على الاحترام. ويقول هؤلاء إنه يدرك جيداً أن لدى الفلسطينيين أفكاراً ممتازة يمكن أن ترضيهم دون أن يكون ذلك مساساً بمصالح إسرائيل. وعليه أن يدرك أن عصراً جديداً قد بدأ يستشرف الحرية وحقوق الإنسان، وأن أساليب ما قبل الحرب العالمية الثانية والضغط على النموذج الاستعماري الباطش لم يعد له مكان في التاريخ. وبصورة أكثر وضوحاً يقولون إن المطلوب ليس مبادرة للسلام يتم الالتفاف عليها بعد تصويرها للعالم الخارجي، وإنما المطلوب هو استراتيجية متماسكة وعقلانية لإدارة الصراع بهدف تقليل المعاناة لدى الطرفين.
وإذا كانت السياسة هي فن الممكن فإن المحاولة يجب أن تبدأ، وعلى الجميع أن يعرفوا أن الواقع والحقيقة ينطويان على تعقيدات تحتاج عقولاً متفتحة لا توجهات استعلائية استبدادية يجري تبريرها بفزاعة الأمن. والجميع يعرفون أن الهدف الأكبر لإسرائيل هو الهيمنة والتخويف والردع بعقدة مساحتها الضئيلة وخوفها الشديد من جيرانها. حتى إن هذه العقدة دفعتها إلى صنع عدو من إيران بعدما توقفت مصر عن تشكيل أي خطر عليها.
الجدير بالذكر هنا ما قالته تسيبي ليفني زعيمة المعارضة الإسرائيلية من أن المصالحة بين فتح وحماس جاءت نتيجة مباشرة لسياسات نيتنياهو التي أدت إلى تجمد العملية الدبلوماسية، وقالت إن القرار الفلسطيني جاء لإدراك الفلسطينيين بأن الحكومة الإسرائيلية غير راغبة في الدخول في مفاوضات سلام حقيقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي