يوسف أيها الصديق.. وداعا

الراحل هذه المرة هو يوسف أديب الأعمى الرئيس الأسبق لإدارة التجارة الخارجية بوزارة التجارة في أواخر الستينيات الميلادية.
هذا الرجل أسدى لي معروفا لا أنساه في أول مهمتين رسميتين لي خارج المملكة، ففي مطلع عام 1968 اختارني وكيل وزارة البترول والثروة المعدنية، وهو الأستاذ هشام ناظر للمشاركة مع وفد المملكة في الدورة الثانية لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ''انكتاد'' في نيودلهي بالهند.

كان الهدف الحقيقي من القرار هو تدريب موظفي الإدارة الاقتصادية في الوزارة على هذا النوع من النشاط الدولي، وكانت أول التعليمات أن ألتقي المرحوم يوسف أديب الأعمى في مكتبه لأخذ التوجيه منه مباشرة حول ما تطمح إليه المملكة من المشاركة في مثل هذا التجمع الدولي الذي سوف ترعاه وتفتتحه انديرا غاندي بمشاركة العديد من الأسماء اللامعة في ذلك الوقت مثل اوثانت الأمين العام للأمم المتحدة وعبد المنعم القيسوني وزير الاقتصاد المصري ويوجين روستو مستشار الأمن القومي للرئيس جونسون وغيرهم.

سألني المرحوم عن مؤهلاتي وعنوان وظيفتي فأخبرته أنني عدت منذ أقل من سنتين من جامعة القاهرة، وعندما أخبرته أن اسم وظيفتي هو مساعد مستشار اقتصادي لم يستطع أن يحجب ابتسامته، لكنه أسبغ علي من عبارات التشجيع، ما جعلني أعود إلى مكتبي والثقة تضوع من بدني أسورة، كما يضوع المسك والزنبق الورد من أردان هريرة على حد قول شاعر منفوحة ''الأعشى''.

وإنفاذا لتعليمات المرحوم سافرت إلى بيروت للحصول على سمة الدخول من السفارة الهندية وللالتقاء أعضاء الوفد وهم إلى جانب المرحوم كل من الإخوة الأعزاء فيصل البشير وبكري شطا أما معالي وزير التجارة عابد شيخ فسوف يلحق فيما بعد لرئاسة الوفد. أما لماذا كان السفر إلى الهند عن طريق بيروت فهو سر لا أعرف كنهه.

في بيروت التقيت الملحق التجاري السعودي في مكتبه، وفي اليوم التالي هاتفني ليخبرني أن أعضاء الوفد لن يصلوا إلى الهند إلا بعد أسبوع من بدء المؤتمر.

هذا الخبر وقع على رأسي مثل الصاعقة، لأنه يعني أني سأكون رئيس الوفد السعودي خلال الأسبوع الأول من المؤتمر الذي يحضره ما يزيد على ثلاثة آلاف مشارك وازدادت حيرتي – وشر البلية ما يضحك– عندما علمت أن اثنين من كبار أساتذتي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية يشاركان في المؤتمر أحدهما عميد الكلية المرحوم محمد زكي شافعي، لكن الذي هون الأمر هو وجود السفير السعودي الأسطورة في نيودلهي، وهو محمد الحمد الشبيلي (أبو سليمان) الذي غمرني- رحمه الله- بعطفه ورعايته.

وفي اليوم الأول للمؤتمر أرسل معي أبو سليمان أحد موظفي السفارة المتقاعد، وهو شيخ طاعن في السن جلس بجانبي، وبدأ الكتابة قبل افتتاح الجلسة واستغرق في التدوين بعد ذلك، وعندما استرقت النظر إلى ما يسطره اتضح لي أنه يكتب رسالة إلى أهله بمدينة الحريق، وعندما نقلت ذلك إلى مسامع أبي سليمان استغرق في الضحك وقال لي إنه أرسله معي خشية علي من الوحدة، أما الشيخ الزميل فقد سألته عن مؤهلاته فأجابني بكل براءة ''والله يا محب لا علم ينفع ولا جهل يضر''.

قررت- والأمر كذلك– أن أعتمد على نفسي فأحضرت كراستين الأولى لتدوين كل ما يدور في الجلسة الافتتاحية أو في اللجنة الأولى (المواد الأولية) التي واظبت على حضور جلساتها، أما الثانية فقد خصصتها لتدوين كل ما أسمعه لأول مرة من مصطلحات وكلمات إنجليزية، إذ إن اللغة العربية لم تكن قد اعتمدت في ذلك الوقت لغة رسمية في الأمم المتحدة.

وصل الوفد السعودي وقابلت المرحوم وسردت عليه كل صغيرة وكبيرة، وعندما عرف سر الكراسة الثانية استغرق في الضحك، وشد على كتفي قائلا ''اعتبرني أخوك الكبير'' وصار يأخذني معه في كل المناسبات علاوة على توجيهه لي في أعمال اللجنة التي أحضرها، وما علي أن أقوله لو تعرضت لمن يسألني عن بعض الأمور الفنية.

والحقيقة أن قصتي معه في الهند مليئة بالجوانب التي تؤكد طيب معدنه وأصالته وإخلاصه لوطنه وحبه للناس، وخاصة الناشئة الذين يلحظ فيهم الفضول المهني والرغبة في العمل الجاد.

واختصارا للموضوع فبعد رحلة الهند، وفي شهر مايو من ذلك العام كان معالي المرحوم عابد شيخ وزيرا للبترول بالنيابة، فاختارني بمشورة من الأخ يوسف للمشاركة في وفد المملكة لحضور اجتماعات المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الجامعة العربية في القاهرة، وعلى الفور اتصلت بالمرحوم الذي أخبرني أنه في عصر اليوم السابق للسفر علي أن أحضر اجتماعا تمهيديا في مجلس الوزراء، وهو المكان الذي يعمل فيه الملك فيصل- رحمه الله- فأفصحت له أن سيارتي فالكسواجن، وأخشى أن لا أتمكن من الدخول في قصر الحمراء فطلب مني أن أقابله في شقته المقابلة لمبنى وزارة المالية لكي نذهب معا في سيارته وهكذا كان، وطلب مني أن أجلس بجانبه، وألا أتكلم إلا إذا طلب مني، وكان السبب أن الاجتماع برئاسة سمو الأمير مساعد بن عبدالرحمن وزير المالية، وأنا ما زلت على وظيفة مساعد مستشار اقتصادي، وربما يكون- رحمه الله- قد لاحظ أثناء مهمة الهند أنني لا أخلو من ''لقافة'' فأراد أن يلفت نظري.

وعندما دخلنا القصر كان على باب مكتب الملك فيصل كل من أصحاب المعالي: عابد شيخ، رشاد فرعون، سيد عمر السقاف، وطاهر رضوان مندوب المملكة في الجامعة العربية، رحم الله الجميع.

لمحت شطفة الملك فيصل وأنا أدخل غرفة الاجتماعات، وعندما دخلنا كان هناك الشيخ محمد أبا الخيل (وكيل وزارة المالية)، ومعه الأخ سعيد بن سعيد ثم اكتمل العقد برئاسة الأمير مساعد، وكان هو المتحدث الوحيد حول موقف المملكة من هذا الاجتماع يسانده محمد أبا الخيل الذي يستعين بما أمامه من أضابير، لكنه عندما يتحدث يخيل إليك أنه يحفظ ما في ملفاته حاشية ومتنا.

خرجنا وذهبنا إلى القاهرة، وحضرنا الاجتماع برئاسة عبدالحليم خدام، والحديث ذو شجون لكن المرحوم يوسف أديب كان طوق النجاة لي في ذلك الاجتماع الذي يعالج بعض الأمور البترولية قبل إنشاء منظمة ''الأوابك''، وأقول طوق النجاة لأن العمل مع المرحوم طاهر رضوان رئيس وفد المملكة في الجامعة العربية، وفي المؤتمر يحتاج إلى صبر وأناة، فهو إلى جانب صرامته ودقته المعروفة لا تثريب عليه، فهو ينفذ تعليمات الملك فيصل الصادرة إليه من سمو الأمير مساعد بن عبدالرحمن ''وإياك إياك أن تبتل بالماء''.

غفر الله للفقيد وأسبغ عليه شآبيب رحمته ولابنه العزيز أديب ولوالدته والأسرة قاطبة أسمى ما يملكه القلب من مشاعر العزاء والمواساة و''إنا لله وإنا إليه راجعون''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي