الانتخابات المقبلة ستكون نقطة تحول في تاريخ تركيا الحديث

كل المؤشرات واستطلاعات الرأي تشير إلى أن حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان سيكون الفائز في الانتخابات التشريعية التي ستجري في 12 من حزيران (يونيو) المقبل، وسيحتفظ بأغلبية مقاعد البرلمان ما يعني بأنه سيشكل حكومة للمرة الثالثة منذ عام 2002 عندما انتزع الحكم للمرة الأولى وبدأ بسياسة خارجية تعتمد على تصفير المشاكل وعلى إعادة توجيه سياسة تركيا الخارجية بمقاربات لم تكن مألوفة من قبل، لدرجة أن البعض وصف هذه السياسة بأنها انقلاب على تركة مصطفى كمال أتاتورك.
الباحث هنري باكري من مؤسسة كارنيغي تناول الانتخابات في دراسة مستفيضة ويقول إن الانتخابات المقبلة ستكون نقطة تحول في تاريخ تركيا الحديث لأسباب ثلاثة. أولا، رغبة رئيس الحزب وهنا رئيس الحكومة السيد رجب طيب أردوغان بأن يضع دستورا جديدا ليحل محل الدستور الحالي الذي وضع في عام 1982 تحت حكومة عسكرية تسلطية، ويرى المراقبون أن ثمة ضرورة لدستور جديد لمعالجة أمرين مهمين، هما: المسألة الكردية ومسألة عدم التوازن في علاقات الدولة مع الشعب. فدستور عام 1982 الذي وضعته حكومة عسكرية جاء بهدف إعطاء أولوية وأفضلية للدولة على الفرد وللقومية على المواطنة وهو بذلك يؤسس لقمع الأقليات الإثنية ويضمن استمرار النظام العسكري البيروقراطي. وقد أسهم بدور كبير في تأجيج مشاعر الإثنيات الأخرى ضد الدولة، وبهذا المعنى يعد دستور عام 1982 العائق أمام معالجة مشكلة المطالب المشروعة للمواطنين الأكراد. ثانيا، ستؤسس هذه الانتخابات لانتقال قيادي في تركيا، حيث وعد أردوغان بأنه لن يترشح للبرلمان مرة أخرى بعد هذه الانتخابات، وهو بذلك يسعى لتحويل تركيا من نظام برلماني لنظام رئاسي - ربما على الطريقة الفرنسية - حتى يصبح هو نفسه رئيسا لتركيا. أما السبب الثالث فهو متعلق بأهمية هذه الانتخابات؛ لأنها ستحدد فيما إذا كان حزب الشعب الجمهوري (الحزب الرئيس في المعارضة) في موقع يؤهله للمنافسة ويعيد إنتاج نفسه. الكثير بطبيعة الحال يعتمد على النتائج، فحتى لو فاز حزب العدالة والتنمية فهو قد لا يتمكن من وضع دستور جديد في حال عدم حصوله على 367 مقعدا من أصل 550 مقعدا، وهي أغلبية الثلثين المطلوبة لتغيير الدستور.
وقراءة سريعة لبرامج الأحزاب المتنافسة في الانتخابات القادمة تكشف عن غياب رؤية قوية لدى الأحزاب بشأن السياسة الخارجية، وربما هذا أمر طبيعي، حيث إن السياسة الخارجية لا تلعب الدور الكبير في تحديد سلوك الناخب التركي، فالناخبون مهتمون أكثر بالوعود السياسية والاقتصادية، فأي قضية تؤثر على معيشتهم سيكون لها التأثير في الطريقة التي يختارون فيها ممثليهم. وربما لهذا السبب لا تنتبه أحزاب المعارضة كثيرا لمسائل الدفاع والسياسة الخارجية. وعلى العكس من ذلك، فقد كتب إبراهيم كالين في صحيفة "الزمان" اليوم التركية مقالا بتاريخ 21 نيسان (أبريل) الماضي، إذ يرى أن الوضع التركي العالمي والإقليمي يشير إلى صورة مغايرة، فالجمهور التركي يبدي اهتماما أكبر بقضايا السياسة الخارجية. واستطلاعات الرأي تشير بوضوح إلى أن غالبية الأتراك توافق أو تستحسن السياسة الخارجية المتبعة من قبل حزب العدالة والتنمية، وكذلك تقدر أداء أردوغان كقائد عالمي وهذه ظاهرة جديدة في تركيا. كما أن أعدادا متزايدة من الأتراك الناخبين ترى أن سياسة الحزب في السياسة الخارجية تعبر عن سياسة وطنية تركية، بمعنى أن الحزب يعكس موقف الدولة التركية التقليدية أيضا. وهذا الموقف يقدم جوابا شافيا لكثير من التساؤلات فيما إذا كانت السياسة الخارجية التركية في عهد أردوغان تعبر عن سياسة تركية أم سياسة الحزب.
وبعيدا عن التمييز بين الدولة من جانب والحكومة من جانب آخر، هناك اتجاه يرى أن السياسة التركية - التي يهاجمها خصومها من الداخل بوصفها عثمانية جديدة - ما كان من الممكن أن ترى النور لولا حزب العدالة والتنمية، وهذا يعني أن ثمة إطارا عاما تم تأسيسه لتركيا لبعد الانتخابات المقبلة سيحدد الكثير من سلوك تركيا في الإقليم وفي العالم، خاصة بعد تطورها الاقتصادي الكبير واحتلالها المرتبة الـ 16 على مستوى العالم من حيث حجم الاقتصاد، وكذلك دخولها نادي العشرين الكبار. لهذا السبب يمكن القول إن الإطار العالم سيستمر؛ لأن ذلك يعبر عن رؤية تركيا لنفسها وللعالم ويعبر عن مصالحها الأمنية والاقتصادية في عالم متغير ومعولم. فارتفاع منسوب الاعتمادية المتبادلة في العالم وعلى مستوى الكون لا يعطي الدول رفاهية الانتباه فقط للداخل. لهذا السبب لا نجد تغييرا في برامج الأحزاب المتنازعة في الانتخابات القادمة، وحتى الحزب المعارض الرئيس والمنافس لا يقدم الجديد بشأن السياسة الخارجية مع أنه ينتقد الحكومة الحالية، ولهذا وحتى لو أصبح الحزب شريكا في الحكومة أو شكَّل قوة معارضة مهمة في البرلمان فهو لن يقدم على تغيير الإطار العام الذي أصبح ولحد كبير يمثل كل التلاوين السياسية المختلفة.
في السابق طرح موضوع إعادة توجيه سياسة تركيا نحو الشرق بدلا من الغرب، وقد وصفها البعض بمفاهيم مثل العثمانية الجديدة، وقد أخافت سياسة تركيا المستقلة عن الولايات المتحدة بعض الباحثين في الغرب الذين حذروا بأن تركيا بقيادة الحزب الإسلامي ربما ستخرج من الفلك الغربي مغيرة بذلك سياسة تقليدية لتركيا ابتدأت مع تحالف تركيا مع الغرب أثناء الحرب الباردة. وارتفع منسوب القلق بعد أن أظهرت أنقرة صلابة وحسما في التعامل مع السلوك الإسرائيلي الذي يراه بعض الباحثين بأنه مهدد للأمن الإقليمي الذي يؤثر حتى على تركيا نفسها.
وفي دراسة لمايكل روبين من معهد الانتربرايز الأمريكي، حذر الباحث روبين من أن تركيا تنتهج سياسة شرق أوسطية جديدة لا تهدف للتوسط بين الفرقاء كما تقول أنقرة، وإنما من أجل أن تقود. ويشير الباحث إلى إحدى وثائق ويكيليكس التي يقدر فيها أحد الدبلوماسيين الأمريكيين في أنقرة بأن تصاعد المشاعر المعادية لإسرائيل عل سبيل المثال تستند إلى أرضية دينية وليست سياسية. ويشير الباحث بما أن الخلاف بين تل أبيب وأنقرة هو القاعدة وليس الاستثناء، فإن استراتيجية رئيس الوزراء أردوغان تستند إلى المبادرة وليس على ردة الفعل، وهنا يرى الباحث أن الطريقة التي خرج بها أردوغان من إحدى الجلسات التي شارك بها مع شيمعون بيرس في قمة دافوس لم تكن عفوية. ويسرد الباحث روبين عددا من القصص المعروفة مثل موقف تركيا من أسطول الحرية وموقف حكومة أردوغان من مسلسل وادي الذئاب الذي احتجب عليه إسرائيل كثيرا والموقف من لبنان، كلها مواقف تشير إلى أن أردوغان يستعمل كل شيء من أجل رفع شعبيته في المنطقة العربية إلى مستويات غير معهودة. من هنا وبصرف النظر عن التصريحات وعن الكلمة التي ألقاها الرئيس أوباما في البرلمان التركي فإن هناك نوعا من انعدام الثقة الأمريكية في تركيا، وليس العلاقة السياسة هي من تأثرت سلبا، ولكن أيضا العلاقات بين العسكر على الجانبين. وما من شك بأن إعادة توجيه سياسة تركيا الخارجية في الشرق الأوسط لها انعكاسات لدى دوائر صنع القرار في العالم الغربي. وعلى العكس من الموقف الأوروبي والأمريكي الذي قاطع "حماس" حتى تستجيب للشروط الرباعية الدولية نجد أن أردوغان يستقبل قادة "حماس" في أسطنبول ولا يأبه بشروط الرباعية الدولية التي يرى غالبية المراقبين والمحللين السياسيين في العالم العربي أنها شروطا إسرائيلية. ولا تقف قائمة الانتقادات الغربية لسياسة تركيا الجديدة عند حد لدرجة أن تقاربه مع الرئيس السوري ومحاولته التوسط بين تل أبيب ودمشق لم تسلم هي الأخرى من النقد، فهناك من يرى بأن سياسة أنقرة تجاه سورية هي من أضعف من قدرة القوى اللبنانية المعارضة لدمشق في صراعها من أجل سيادة لبنان.
غير أن قلق دوائر صنع القرار في العواصم الغربية ارتفع بعد التقارب الإيراني التركي وارتفاع منسوب التجارة بينهما. وهذا التعاون يضعف من قدرة الغرب على ممارسة الضغط اللازم على طهران لثني إرادتها ولي ذراعها بشأن الملف النووي. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فتركيا مستمرة في سعيها لأن تكون لها شخصية مستقلة عن الغرب، وبالفعل قام الجيش التركي بالاشتراك مع نظيره الصيني في تمارين حرب افتراضية؛ ما أزعج البنتاجون وبخاصة وأن تركيا تمتلك بعض أسرار حلف النيتو، وهي أيضا تقدمت بشراء طائرات أمريكية من طراز إف 35 التي تحتوي على تكنولوجيا ستعتمد عليها الولايات المتحدة في تفوقها الجوي لعقد من الزمان على الأقل. وهذا السلوك التركي الأخير لم يسلم من النقد وبخاصة وأن هناك العديد من مراكز الثنك تانك في أمريكا تحذر من محاولات تركيا من التقارب مع العالم العربي على حساب إسرائيل.
مجمل القول، تركيا دولة تمكنت في السنوات الأخيرة - وخاصة بعد تمكن حزب العدالة والتنمية من فرض نفسه على المعادلة السياسية الداخلية - من إيجاد شخصية مستقلة لها عن الغرب، فلم تعد تركيا في أذهان الأتراك ولا غير الأتراك دولة تابعة للغرب لا تقوى على تبني مواقف مضادة للغرب استراتيجيا. من هنا يرى عدد من الباحثين في الشؤون السياسية التركية والاستراتيجية أن حزب العدالة والتنمية تمكن من صوغ إطار عام للسياسة التركية تستطيع النخب السياسية التركية أن تشتق مواقفها من هذا الإطار. بمعنى أن هناك ما يشير إلى أن تركيا في المنظور القريب لن تحدث تغييرا كبيرا على سياستها الخارجية، بل ستحافظ عليها في قادم الأيام. فما يحرك تركيا في الإقليم هو مصالحها الاقتصادية والأمنية، وهذا يقتضي الاستمرار في تشخيص الواقع الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي في المنطقة والتجاوب مع التغيرات التي تحدث في المنطقة، فمن غير المعقول أن تستمر سياسة تركيا التي كانت صالحة ربما لفترة الحرب الباردة، فهناك تغيرات كثيرة عصفت في المنطقة ليس آخرها الثورات العربية تتطلب من أنقرة أن تدخل التعديلات اللازمة؛ حفاظا على مصالحها وليس حفاظا على علاقتها فقط مع تل أبيب. وما زلنا ننتظر إجراء الانتخابات وظهور نتائجها للحكم على قوة أردوغان وقدرته على إحداث التغييرات الداخلية وخاصة الدستور؛ لأنها ستعطي مؤشرا عن قوة التوجه الجديد في تركيا الذي بدأ مع الحزب الإسلامي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي