الطيران الداخلي في حاجة إلى منقذ (1)
كتب إليّ أحد رجال الأعمال معلقا على سلسلة مقالاتي عن الوضع المؤسف الذي انحدرت إليه خدمات النقل الجوي الداخلي في بلدنا، قائلا: إن هذا التردي عطل أعمالنا، وقد أصبح مجرد التفكير في الحجز للسفر من جدة مثلا إلى الرياض أو الدمام أو غيرها من مدن البلاد لحضور اجتماع والعودة في اليوم نفسه كابوسا لا يطاق. أصبحنا نلغي بعض الاجتماعات أو نجتمع في دول مجاورة لأننا إن تمكنا من تأكيد الذهاب فلن نتمكن من تأكيد العودة، ولا معنى مطلقا لذهاب مؤكد وعودة غير مؤكدة. هذا وضع مضر جدا بالاقتصاد وببيئة الأعمال، إنه يعكس صورة سلبية، ويؤخر اتخاذ القرارات، ويعطل قيام المشاريع، ويؤخر توليد فرص وظيفية جديدة، ويضيـّع على الأسواق والفنادق فرص الحصول على عملاء محتملين! فهل هذا الوضع يليق بأكبر اقتصاد عربي، وببلد يوصف بأنه المصدر الأول للنفط في العالم؟
وكتب إليّ وليد البسام معلقا فقال: يجب ألا ننسى أن ''الخطوط السعودية'' شركة طيران شبه حكومية، ومن المحال أن نتوقع منها خدمات شركات تجارية شبيهة بخدمات خطوط الطيران العالمية. يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا، فإن كنا نريد خدمات جيدة فعلينا إنشاء شركات طيران جديدة تتحالف مع شركات عالمية لتقديم خدمات النقل الجوي وفقا لأسعار السوق وطبقا للمعايير الدولية. وأضاف مؤكدا: من الواضح أن التراجع الحاصل في سوق الطيران السعودية هو نتيجة فشل في اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب بما يجاري التطورات الاقتصادية الطبيعية في صناعة الطيران.
أما سهل هاشم فقد كتب إليّ رأيا مفصلا، فبدأ قائلا: لو كان لي رأي في عنوان مقالتك لغيرته إلى ''ارفعوا أيديكم عن الخطوط السعودية'' حتى تتخذ قراراتها بناءً على معطيات السوق وليس بناء على التصورات الخاطئة والاعتبارات غير الاقتصادية''. وأضاف قائلا: في تصوري أن أهم مشاكل ''الخطوط السعودية'' تنحصر في: كيفية تسعير الرحلات الداخلية، زيادة أعداد موظفيها بالنسبة لكل مقعد، الخدمات المجانية، هيكل أسطولها. وسأناقش مع سعادته المشكلة الأولى والثانية في مقال اليوم، على أن نكمل مناقشة بقية المشاكل في الأسبوع المقبل.
يقول سهل: إنه بينما تسمح حرية تسعير خدمات النقل الدولي للخطوط السعودية تحقيق عوائد مربحة، فإن خدمات النقل الداخلي تحقق لها ــــ كما يزعمون ــــ خسائر لأن تكاليفها أعلى من إيراداتها بسبب تحديد الدولة لأسعار التذاكر الداخلية وعدم خضوعها لقوى العرض والطلب. ويستمر قائلا: إنه في ظل هذه الظروف ووفقا لمبادئ الإدارة، فإن زيادة عدد الرحلات الداخلية من شأنه زيادة الخسائر، والعكس بالنسبة للرحلات الدولية. ومن ثم لا يوجد حافز لدى الخطوط يدفعها لمواجهة الطلب المتزايد على النقل الجوي الداخلي. وكيف لإدارتها أن تعمل على خصخصة الشركة وقوائمها المالية لا تبشر إلا بالخسائر؟
وأقول لسهل، إن على ''الخطوط السعودية'' أن تختار المبدأ الذي تريد أن تعمل وفقا عليه في كل نشاطاتها. فطالما أنها تعمل داخليا وفق مبدأ قبول التدخل الحكومي في تحديد أسعار التذاكر الداخلية مقابل الحصول على الدعم والإعانات، فعليها توفير الخدمة دون النظر لمبادئ السوق. فالخطوط كانت تحصل من الحكومة علي دعم نقدي وما زالت تحصل على الوقود مدعوما، حيث تدفع ربع قيمته فقط، والوقود من التكاليف المؤثرة في فاتورة شركات الطيران، فهو يشكل نحوا من 40 في المائة من هذه الفاتورة. وبعض رحلاتها الداخلية كالتي بين جدة والرياض لا تحقق خسائر كبيرة بسبب نسب إشغالها العالية وارتفاع أسعار الدرجتين الأولى والأفق. وإذا كانت الخطوط تشتكي من انخفاض أسعار التذاكر وهي تنعم بهذه الميزة، فماذا يقول القائمون علي شركات الطيران الخاص غير المدعومة؟ وعلى أية حال، لا نستطيع أن نحكم بشكل دقيق على ذلك طالما أن ''الخطوط السعودية'' لا تنشر قوائمها المالية. إننا نعلم أن أسعار بعض الرحلات الدولية لدى ''الخطوط السعودية'' أرخص من الرحلات الداخلية إذا ما قورنت بتكلفة ساعة الطيران؛ وذلك لاختلاف منهج التسعير بين السوقين. فالرحلات الداخلية محتكرة ولا تخضع للعرض والطلب على عكس الرحلات الدولية.
والمعروف في صناعة الطيران أن تكلفة الطيران تعتمد على جملة من العوامل التشغيلية وغير التشغيلية. منها تكاليف الوقود بناء على الأسعار الجارية، مقدار ارتفاع الطائرة وسرعة طيرانها (فالتحليق عاليا وبسرعة أقل يستهل وقودا أقل)، كما تعتمد التكلفة على نوع الطائرة وطبيعة تجهيزاتها ومحركاتها، وتعتمد كذلك على مقدار التأخير الناجم من إطالة مسار الرحلة الذي قد يحدث للرحلات المتجهة لمناطق ذات كثافة طيران عالية (فالمناطق المزدحمة قد تتطلب مسارات أطول)، تكاليف الهبوط والمغادرة التي تختلف من مطار إلى آخر، ثم تكاليف الصيانة، ورواتب الملاحين، وأخيرا هناك عامل الطلب والعرض والمنافسة والقدرة الشرائية لمرتادي خط معين. ولعل القارئ الكريم سيلحظ أن بعض هذه التكاليف لا تنطبق على الرحلات الداخلية!
وأنا أتفق مع زميلنا الكاتب الفذ المتخصص في شؤون الطيران الدكتور سعد الأحمد الذي نصح ''الخطوط السعودية'' بأن تجعل قضية التذاكر الداخلية في أدنى قائمة الإصلاحات وليس أولها، وأن تركز بدلا من ذلك على أعلى قائمة الأولويات وخاصة عوائق العمل الكبرى ذات الأولوية الملحة، مثل المصاريف المهدرة في بنود عديدة كمصاريف القوى البشرية وإسناد الطائرات. فالتوفير في مثل هذا النوع من المصاريف سيحسن حساباتها بدرجة كبيرة.
ولذلك يشير سهل هاشم إلى أن مشكلة ''الخطوط السعودية'' الثانية هي أنها من أكثر شركات الطيران معاناة من تضخم أعداد موظفيها. فعندها أعلى معدل في نصيب كل مقعد من مقاعدها من عدد الموظفين. وهذا يتطلب إعادة هيكلة المؤسسة وفق أسس تفضي إلى تخفيض التكلفة وتعظيم العائد في ظل سوق تنافسية. ويبدو أن الإدارة الحالية تجاهد في التخلص من العمالة الفائضة بتحفيز من يرغب منهم في التقاعد المبكر عن طريق برنامج الشيك الذهبي، وقد قاموا بإنهاء خدمة نحو 5200 موظف من الجهاز الإداري المُتضخم. ومع ذلك فالعبرة بما عليه الحال الآن، وهو حال لا يسر أحدا مطلقا! إننا نتمنى ألا يرتبط الفشل وسوء الخدمة بهذه الشركة العريقة فتصبح عنوانا ومثالا له. وما زال للحديث صلة.