الدور الأبرز لوسائل الإعلام المعاصرة

في الثمانينيات برزت مشكلة كبرى حول تدفق الإعلام والمعلومات، وانقسم العالم إلى فريقين: فريق يرى أن هناك هيمنة واستعمارا إعلامياً، وفريق يقول إن الإعلام ميدان حر وانتقاء الدول القوية إعلامياً لا يعدو كونه دليلاً على العجز.
غير أن المتابع للأحداث الساخنة التي يمر بها العالم العربي، يرى أنها أعادت الاهتمام بمتابعة دور الإعلام. والمعروف أن الإعلام رباعية تتكون من مرسل ومستقبل ورسالة ووسيلة، ولأن الغرب أمسك بناصية الاختراعات منذ زمن بعيد فقد أصبح مسيطراً على الإعلام بصورة واضحة. فهو الذي يخترع الأسطوانة والشريط ويطور الإلكترونيات والفضائيات وغيرها وباقي الدول تستورد، ومن يستورد المعدات يستورد ما يناسبها من ضرورات. بل إن النوعيات الإعلامية - صحافياً وإذاعياً وتلفزيونياً - منقولة عن الغرب.
وقد لاحظت زيادة الدور التحريفي للإعلام من خلال الخبر والتحليل والتعليق وبرامج المقابلات Talk Shows على حساب الدور التنويري والموضوعي، وإذا نظرنا لهذه الحقيقة وفي أذهاننا الزيادات الهائلة في أعداد السكان والنزعة للسطحية وعدم التعمق، لأدركنا خطورة ما نحن فيه. إذ إن كل دولة أصبح شغلها الشاغل توجيه آراء المتعرضين لإعلامها نحو تبني مواقف تخدم مصالح معينة.
وعندما بدأت مسيرتي الإعلامية منذ أكثر من 40 عاماً كان النمط السائد أن الإعلام له مهمة محددة وهي صنع الصورة. فكل دولة تريد سرد أمجادها وإنجازاتها وإيجابياتها ومسيرتها التنموية، ونتجاهل كل ما يناقض ذلك ولذلك تعود المتعرض للإعلام على تلقي صورة أحادية، ومن ثم أصبح من الصعب عليه تقبل الرأي الآخر ومن ثم الآخر. ونرى تطبيقاً دقيقاً لذلك في الأحداث التي تدور في مصر خاصة الفتنة الطائفية التي يرفض كل طرف فيها قبول منطق الآخر.
وهناك نداءات ومطالبات عديدة بتطبيق ما يسمى بحرية الإعلام، وهو أكذوبة كبيرة، لأن المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لها الأولوية في اختيار الأخبار، وأولى مراحل الكذب الإعلامي هي تجاهل العديد من الأخبار الصادقة. والحديث عن الأخبار الصادقة ينقلنا إلى المصادر الشفافة التي تتمتع بالدقة والمصداقية، وهذه في حد ذاتها أصبحت فريسة للتلاعب.
وفي الماضي كان هناك ما يعرف ببناء الصورة من خلال ممارسات علامات عامة كتصوير الزعيم مع الأطفال أو إرسال صورته ممهورة بتوقيعه إليهم أو جمع المعلومات التي تفيد في رسم صورة إيجابية للبلد وللحاكم. ولكن الثورة الإلكترونية الكبرى التي عمت العالم بعد فيوض الاختراعات، جعلت رسم الصورة قصة من الماضي، ذلك أن مئات المحطات المرتطمة والمتلاطمة تبث معلومات أقل ما نصفها به أنها معلومات متناقضة.
وبديهي أن أية وسيلة إعلامية تخدم صاحبها، الذي تجشم النفقات لاستمرارها ولم يحدث أن أسس فرد أو هيئة أو حكومة محطة تلفزيونية أو إذاعية أو صحيفة لوجه الله، بل لا بد أن يكون لها عائد يتمثل في رسم الصورة أو تشويه صورة خصم أو منافس.
وأخطر ما نواجهه اليوم هو شلالات الأحاديث وفيضانات التراشق وسيول الرغي التي تواجهنا ليل نهار، بحيث إن الارتطام بينها أضعف مصداقيتها جميعاً، وكم نغبط الإعلامي الذي ينجح في أن يجعل له جمهوراً يتابعه ويصدقه. وتلك معضلة تواجه المبرمج الذي يضطر لتطبيق ما تمليه عليه ضرورات البرمجة، وهذه الضرورات هي الاستمرارية والتنافسية والشمولية والتكلفة العالية والديناميكية لأنها تتطلب التغيير حسب تقبل الجمهور وقبل هذه الضرورات هناك فنون لا بد منها على رأسها فن الاستمالة وتحقيق القبول لدى القارئ والمستمع والمشاهد، لأن كلمة السر الأهم في هذه اللعبة هي الحضور والإيصال الذي إن لم يتوافر في برامج فإنه يعتبر في عداد الأموات إعلامياً.
ونظراً للعلاقة العضوية بين الإعلام والسياسة، فإن الساسة يحرصون على امتطاء صهوة الإعلام لتحقيق أهدافهم القريبة والبعيدة، ونظرا لأن السياسة دخلت بقوة إلى مجال الإعلام، فإن كافة آفات السياسة لا بد وأن تظهر لنا وعلى رأسها الكذب والتحريض والتجاهل والتمويه، بل إن هناك مشكلة لا حد لها تتجسد في المرسل نفسه أي الشخص الذي سيقدم الرسالة، وكثيراً ما يكون ضعيف الخلفيات وهزيل الثقافة وقليل التركيز، فتأتي رسائله ساذجة أو مكررة أو ضعيفة، ولعل هذا هو أكبر أمراض الإعلام العربي.
ذلك أن إعداد كوادر إعلامية متميزة عمل يتطلب نفقات هائلة وتدريبا مستمرا وأسفارا دائمة لاكتساب المهارات والقدرات على الإقناع.
وأقسى ما في الإعلام أنه صناعة شديدة التكلفة ولذلك نجد أن دولة مثل الولايات المتحدة تهيمن عليه، فهي تنتج أفلام الكاريكاتير الذي تتكلف الدقيقة منها مليون دولار وتنتج الأفلام السينمائية (70 في المائة من إنتاج العالم) وتحملها رسائل مهمة قوامها أن الأمريكي قادر على كل شيء، فهو يحارب العفاريت ويهزمهم والمخلوقات الهابطة من كواكب أخرى ويصعد إلى المجرات والكواكب ليؤدب ساكنيها، ويبلور كافة أنواع الصراع بما يدخل في روع المشاهد أنه قادر على هزيمة كل شيء من الهندي الأحمر إلى الألمان إلى كل ما يمثل صراعا للإنسان في صحوه أو أحلامه.
أما الهيمنة الأمريكية بصورتها الحالية فنجدها تتجسد في شبكة الإنترنت وإعلام الكمبيوتر، فشبكة جوجل على سبيل المثال تسيطر على محركات البحث في العالم، ونجح الفيسبوك والتويتر وغيرهما في إحداث تحولات سياسية رهيبة ما كان من الممكن تحقيقها بوسائل الإعلام التقليدية من إذاعة وصحافة وتلفزيون. ولعل ذلك يدفعنا نحن العرب إلى البحث عن محركات تحقق مصالحنا.
إنها حقيقة جديرة بالتأمل، ولا نبالغ إذا قلنا إننا ننتمي إلى الأفكار التي عرفناها عبر وسائل الإعلام، والمثقف الحديث هو الأكثر تعرضا لوسائل الإعلام، ومن هؤلاء قادة الرأي الذين يقودون قطعانا من البشر لأفعال مستهجنة ويكفي أن يتطوع مروج للإشاعات بتضمين برنامج إذاعي أو تلفزيوني معلومة عشوائية استمدها من خياله أو من صديق غير مسؤول، لتصبح شائعة كبرى تصل إلى الملايين، ثم تنتقل كالنار في الهشيم، وتتحول بالتكرار وسعة الانتشار إلى حقيقة لدى كل من تصله، وهذه واحدة من حيل الإعلام وسلبياته الخطيرة.
غير أن للإعلام حسناته كأداة تنوير مهمة، ذلك أنه إذا جرى الاهتمام به والإنفاق السخي عليه في مواضع تتطلب هذا الاتفاق وإذا عهد به لذوي الضمير الحي والمهارة المتميزة فإنه ورقة مهمة لا يمكن الاستغناء عنها. فهو بمثابة أنوار السيارة للمسؤولين، وهو الذي يمكنه التنبيه إلى المشاكل الكبرى، كغياب الشرطة في شوارع القاهرة أو تغول الطوائف ضد بعضها البعض، وهو إذا تم في إطار من التفاهم الهادئ يمكن أن يحقق دائماً روح العدالة ويعبر عن ضمير الأمة كما وصفه الألماني أوتوجروت قبل أن تظهر فيضانات الإعلام وتتضاعف مخترعاته وتزيد قوته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي