إذا لم تجفف منابع الفساد العالمي فسوف ينتشر الفقر ويصبح عدد الدول الأقل نموا 96 دولة في عام 2051
• أصدرت الأمم المتحدة في عام 1971، أول قائمة للدول الأقل نموا تضمنت 24 دولة. وبعد مرور أربعة عقود من الزمن، تضاعف عدد تلك الدول ليصل إلى 48 دولة في عام 2011.
• الدول الأقل نموا تلوم المجتمع الدولي وخصوصا الدول المتقدمة التي لم تلتزم بما تعهدت به من مساعدات ومعونات تنموية أو فتح أسواقها أمام صادراتهم. والدول المتقدمة والمؤسسات التنموية الدولية، من جانبها تلقي باللائمة على الدول الأقل نموا في المقام الأول لاستمرار الفقر والتخلف لديها، بسبب عدم اهتمامها في قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان عموما وحقوق المرأة بشكل خاص، ولعدم وجود الحكم الرشيد وانتشار الفساد في تلك الدول.
• التساؤل الذي يفرض نفسه في هذا المقام هو: هل سوف ينتشر الفقر عالميا مستقبلا، كما حدث في السنوات السابقة، ويتضاعف عدد الدول الأقل نموا خلال العقود الأربعة التالية ليصبح 96 دولة في عام 2051م؟
• إن استمرار مشكلة الفقر والتخلف في العالم سببه الفساد الذي هو الطريق المؤدي إلى الفقر والتخلف، ليس فقط في الدول الأقل نموا بل حتى النامية منها. وعليه إذا ما أراد المجتمع الدولي النجاح في استئصال الفقر والتخلف والأمراض والأوبئة والجهل والأمية فيجب عليه أولا أن يسعى إلى تجفيف منابع ذلك الفساد. ولذلك فالسؤال الأهم هنا أين مواقع تلك المنابع؟
أصدرت الأمم المتحدة أول قائمة للدول الأقل نموا في أواخر الستينيات من القرن الماضي، ضمت 24 دولة من مختلف قارات العالم وفقا لمعايير محددة وقياسات لمستويات دخل الفرد في تلك الدول.
وانطلاقا من اهتمام المجتمع الدولي بقضية التنمية في الدول الأقل نموا، عقدت ثلاثة مؤتمرات دولية للأمم المتحدة بخصوصها خلال العقود الأربعة الماضية. وأسفرت تلك المؤتمرات عن بلورة عدة مواثيق وخطط عمل عشرية تضمنت أهدافا ومبادئ وبرامج للقضاء على الفقر والمرض والأمية ورفع المستوى المعيشي في تلك الدول.
واستمرارا لسلسلة هذه المؤتمرات الدولية عقد في مدينة إسطنبول خلال الفترة من 9 إلى 13 أيار (مايو) 2011، مؤتمر الأمم المتحدة الرابع للدول الأقل نموا، حيث شهدت مداولات المؤتمر أطروحات مختلفة يمكن تلخيصها في محورين أساسيين هما: محور الدول الأقل نموا ومحور الدول المتقدمة والمؤسسات الدولية.
محور الدول الأقل نموا استعرض حجم المعاناة التي يعيشها الإنسان هناك، التي تزداد يوما بعد يوم في ظل اشتداد تحديات التنمية مع الانفتاح الاقتصادي العالمي. وأكدوا أن المجتمع الدولي وخصوصا الدول المتقدمة لم ييسر عليهم مسار الدرب التنموي حيث لم تلتزم تلك الدول بما تعهدت به من مساعدات ومعونات تنموية أو إجراءات كافية تضمن فتح أسواقهم أمام صادرات تلك الدول.
أما محور الدول المتقدمة والمؤسسات التنموية الدولية فقد ركزوا على أنه من الأهمية أن تعتني الدول الأقل نموا في المقام الأول بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان عموما وحقوق المرأة بشكل خاص. وأكدوا أن السبب الرئيس لاستمرار الفقر والتخلف في تلك الدول مرده عدم وجود الحكم الرشيد وانتشار الفساد.
ومع توالي الاتهامات المتبادلة بين المحورين خلال مداولات المؤتمر ألقيت نظرة مراجعة على القائمة الحالية للدول الأقل نموا، التي تضاعف عددها ليصبح 48 دولة في عام 2011، على الرغم من مؤتمرات الأمم المتحدة المتعددة ثم سألت نفسي: هل يمكن أن يتوسع انتشار الفقر عالميا مستقبلا، كما حدث في السنوات السابقة، ويتضاعف عدد الدول الأقل نموا خلال العقود الأربعة التالية ليصبح 96 دولة في عام 2051؟
وفي البحث عن إجابة لذلك التساؤل وجدت أن الطرح الذي قدمه محور الدول المتقدمة والمؤسسات الدولية كان صائبا في تفسيره لسبب استمرار مشكلة الفقر والتخلف في العالم فالفساد هو بؤرة المشاكل التنموية والطريق المؤدي إلى الفقر والتخلف ليس فقط في الدول الأقل نموا بل حتى النامية منها. وعليه إذا ما أراد المجتمع الدولي النجاح في استئصال الفقر والتخلف والأمراض والأوبئة فيجب عليه أولا أن يسعى إلى تجفيف منابع ذلك الفساد.
ولكن السؤال الأهم هنا: أين مواقع تلك المنابع؟ والإجابة في نظري عن هذا التساؤل ليست صعبة، فالفساد كان ومازال وسوف يستمر ذا شقين هما عرض وطلب. والجميع يدرك أن المركز الرئيس للعرض ومصانع إنتاج كل أنواع الفساد معروف مواقعها، في الدول المتقدمة ومؤسسات التنمية الدولية. وقد أورد الدكتور جيفري دي. ساكس إثباتات لذلك، في مقاله ''الاقتصاد العالمي وموجة جرائم الشركات'' المنشور في ''الاقتصادية'' في عددها رقم 6418 في الثامن من أيار (مايو) 2011، حيث أفاد أن: ''العالم أصبح غارقاً في احتيال الشركات، ولعل المشكلات الأشد خطورة في البلدان الغنية تلك التي من المفترض أنها تتمتع بالحكم الرشيد. والواقع أن حكومات البلدان الفقيرة ربما تقبل رشا، ولكن البلدان الغنية هي التي تستضيف الشركات العالمية التي تنفذ أعظم الجرائم. إن المال يتكلم، وهو يفسد السياسة والأسواق في مختلف أنحاء العالم فقد دفعت كل شركة في ''وال ستريت'' غرامات كبيرة في السنوات العشر الماضية بسبب تزوير في العمليات المحاسبية، والعمليات الاستثمارية الاحتيالية. ولكن هذا يعكس حقيقة مفادها أن المساءلة القانونية هزيلة للغاية فبعد عامين من أكبر أزمة مالية في التاريخ نفذها أكبر البنوك في ''وال ستريت''، لم يصدر ولو حكم واحد بالسجن على أي من كبار رجال التمويل''.
وأشار الدكتور ساكس أيضا إلى أن ''نائب الرئيس السابق ديك تشيني وصل إلى البيت الأبيض بعد أن خدم رئيسا تنفيذيا لشركة هاليبرتون. وأثناء عمله فيها، قدمت الشركة رشا غير مشروعة لمسؤولين نيجيريين بهدف تمكين الشركة من الوصول إلى حقول النفط في نيجيريا وبالطبع كان العائد مليارات الدولارات. وعندما اتهمت حكومة نيجيريا ''هاليبرتون'' بالرشوة، سارعت الشركة إلى تسوية القضية خارج المحاكم فدفعت غرامة قدرها 35 مليون دولار. وبطبيعة الحال لم يتعرض تشيني لأية عقوبات على الإطلاق''.
وأكد الدكتور ساكس في ختام مقاله أنه ''قد أفلت زمام الفساد المؤسسي لسببين رئيسيين. الأول، أن الشركات الكبرى تتمتع بالقوة العاتية من الناحية المالية إلى حد تخشى معه الحكومات أن تتعرض لها بأي سوء. والسبب الآخر أن الشركات تلعب دور الممول الرئيس للحملات الانتخابية في أماكن مثل الولايات المتحدة، بينما قد يكون الساسة شركاء في ملكية هذه الشركات في كثير من الأحيان. والواقع أن ما يقرب من نصف أعضاء الكونجرس الأمريكي من أصحاب الملايين، ويرتبط عديد منهم بصلات قوية بالشركات حتى قبل وصولهم إلى الكونجرس. ونتيجة لهذا فإن الساسة كثيراً ما يغضون الطرف عندما يتجاوز سلوك الشركات كل الخطوط. لذا، فإن سمعت في المرة القادمة عن فضيحة فساد في إفريقيا أو أي منطقة فقيرة أخرى، فعليك أن تسأل نفسك: أين بدأت هذه الفضيحة ومن لعب دور المفسد؟ ولا يجوز للولايات المتحدة أو أي دولة ''متقدمة'' أخرى أن تشير بأصابع الاتهام إلى البلدان الفقيرة، وذلك لأن الشركات العالمية الأعظم قوة هي التي تخلق مثل هذه المشكلات في أغلبية الأحوال''.
وبعد استعراض كل هذه الأطروحات وجدت نفسي محبطا ومتشائما على مصير الإنسان في الدول الأقل نموا والنامية ومستوى حياتهم المعيشية مستقبلا فبوصلة جهود مكافحة الفساد متجهة فقط نحو الطلب في الدول الأقل نموا والنامية، وأغفلت تماما المنابع في الدول المتقدمة ومؤسسات التنمية الدولية. ولذلك ليس مستبعدا في ظل استمرار هذا الخلل في بوصلة مكافحة الفساد العالمي أن يتضاعف عدد الدول الأقل نموا خلال العقود الأربعة التالية ويصل إلى 96 دولة عام 2051.