لماذا فشل جورج ميتشيل؟
قدم جورج ميتشيل المبعوث الأمريكي الخاص بالشرق الأوسط استقالته منذ أسبوع. ونظرة في السيرة الذاتية لهذا الرجل نقتنع بأنه دبلوماسي وسياسي ناجح. فقد كان زعيما للأغلبية في مجلس الشيوخ ونجح في الوساطة بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا الشمالية، لكنه فشل في تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهذا أمر طبيعي؛ لأن تاريخ فشل الوسطاء في هذه المشكلة طويل لأن الأسباب أكبر من قدرات أي وسيط.. لماذا؟
أولا: لا يُمكن حل مشكلة دون التصدي لأسبابها الحقيقية ومعالجة الجذور، وقد حرص جميع الوسطاء ومنهم جورج ميتشيل على تناول الصراع من منظور الأرض، أي أن إعطاء الفلسطينيين مساحات أرض أكبر سيحل المشكلة. ولكن هذا التناول يغفل أمورا كثيرة، على رأسها أن قبول مساحة أرض أوسع قد يكون مطلبا تكتيكيا يمهد لمطالب أكبر، كما أن إسرائيل تركت سيناء لمصر ولم يسفر ذلك إلا عن سلام بارد وزيادة كراهية إسرائيل في مصر. كما أن انسحاب إسرائيل من غزة لم يؤد إلى تحسين مشاعر الفلسطينيين تجاه الإسرائيليين، ناهيك عن المشاعر الرافضة لليهود في أنحاء العالم الإسلامي.
ثانيا: ينطوي الصراع العربي - الإسرائيلي، والذي نجحت وسائل الإعلام الأمريكية في جعله تحت مسمى الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، على عنصر لا يُمكن إغفاله وهو الدين؛ لأن الأدبيات الخاصة بالدين لدى الطرفين تبث روح الرفض والكراهية. ويدرس المسلمون فصولا تاريخية عن يهود خيبر وبني قريظة والنضير والقنيقاع باعتبارها قبائل ناصبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - العداء، كما أن اليهود بجميع تقسيماتهم من أرثوذوكس أي المتشددين والقرّائين وغيرهم لديهم الكثير من القدح والذم في المسلمين. ولا يُعقل إغفال الدين وهو المكون الثقافي الأعظم لدى الشعوب.
ثالثا: لا يختلف اثنان على أن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي له بُعد قومي عارم، فاليهود بمجتمعهم المغلق يرتطمون بالعرب وقد خطفوا أرضا وشردوا شعبا وسرقوا موارده وشوهوا تاريخه ودمروا مستقبله، وهذه جريمة قومية كبرى لا يُمكن لأي وسيط أن يبددها من أذهان الطرفين. فالعرب يتحدثون عن حقوق مسروقة واليهود يتحدثون عن حقوق تاريخية مشكوك فيها، وإن نجحوا في تصديرها إلى الغرب على أنها حقائق.
رابعا: من المهم إدراج العوامل الثقافية والحضارية لدى تناول وسائل حل هذا الصراع. فاليهود الذين ألقي بهم في فلسطين وقامت الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية بنقلهم إلى أرض الميعاد ينتمون إلى أشتات ثقافية متباينة، فمنهم أغلبية جاءت من شرق أوروبا من المجر وبولندا وبلغاريا وألمانيا ودول اسكنديناوة إلى جانب بعض جاليات من جنوب إفريقيا وأمريكا اللاتينية والدول العربية، وهؤلاء جميعا يحملون على أكتافهم جذورا عميقة مختلفة على الصعيدين السياسي والثقافي. وقد يستخف البعض بهذا العنصر، لكنه في رأيي يمثل سببا جوهريا في الارتطام الذهني بين العرب واليهود. فالعرب معظمهم يعيشون في دول لها نظرتها الخاصة بالحكم والحاكم بينما اليهود نشأوا وترعرعوا في دول لها مفهوم مختلف عن الحكومة والأحزاب.. وهذا الاعتبار يوسع الهوة التفاهمية بين الطرفين.
خامسا: هناك اعتبار له قيمته يتمثل في الثأر ورغبة الطرفين في الانتقام، خاصة من ناحية الجانبين الفلسطيني والعربي، اللذين ذاقا الأمرين من خلال القمع والبطش الإسرائيلي أثناء الحروب وقمع الانتفاضات والهجوم غير المبرر على النساء والأطفال والعُزل. وإذا تابعنا صفحات مختلفة من تاريخ البشرية، سنجد أن وقوع حرب بين شعبين أو دولتين هو المقدمة لحرب تالية؛ لأن الطرف الذي يشعر بالهزيمة تعتريه مشاعر المهانة ويصبح التخلص منها بالثأر ورد الاعتبار. وحتى لا يحدث ذلك، ينبغي على الطرف الأكثر ظلما بالاعتذار، ولكن بلغة السياسة: من هو الطرف الذي يُمكن أن يعتذر بحسبان أن ما يقوم به الساسة هو عين الحق ورمز الحقيقة؟
سادسا: من أهم ما يعتور تحقيق السلام بين الطرفين المتناحرين تراكمات الإعلام لدى الطرفين، فعلى امتداد عمر الدولة الصهيونية ومنذ عام 1948 انتشرت مصطلحات وذاعت أغنيات وكثرت مفاهيم هي نتاج عقود من الارتطام والتضاد الإعلامي، حيث حرص كل طرف على إبراز الآخر في أسوأ صورة. وقد يعتقد البعض بأن الجانب العربي قد نجح في تشويه صورة اليهود، بينما الحقيقة أن اليهود بما لهم من سطوة وسيطرة على وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية نجحوا في صنع صورة سلبية للعرب يعاني منها الفلسطيني حتى الآن، فقد صوروه بأنه متعطش للدماء وإرهابي لا يرحم إلى آخر ذلك، لكنه فعلا مواطن غُلب على أمره وتمت سرقة وطنه. ولا يمكن أن نعزل هذه المفاهيم عن عقول الدبلوماسيين والساسة الذين يتصدون لأي حلول أو أولئك الذين يقابلون جورج ميتشيل وأمثاله من المبعوثين إلى المنطقة. وما دمنا قد توقفنا أمام الإعلام فلا بد أن ندرك حجم التعقيدات الآن بعد أن أصبح الإعلام آلة جهنمية وبعد أن دخل عصر الثورة الإلكترونية وبعد زواج القمر الصناعي من الكمبيوتر وهيمنة عصر الإنترنت والفيس بوك والتويتر والفضائيات التي لا تتوقف ليل نهار. نود أن نتخيل حجم التأثير الذي يمكن أن يحدثه جزء بسيط من هذا الطوفان.
وهذا ينقلنا إلى العنصر السابع وهو التعليم والمناهج والتدريس، خاصة كتب التاريخ التي أصبحت مليئة بالعنف مع نزعة عارمة لإحياء هذا العنف ليصبح النموذج السائد. ولا نتجاهل حقيقة أن كل الديانات والثقافات عامرة بالعداء لغيرها، بل إن الحروب التي وقعت لأسباب دينية مسؤولة عن موت 90 في المائة ممن راحوا ضحية الحروب، وهو أمر جدير بأن نتوقف أمامه؛ لأن الدين عامل تهذيب ورحمة وحنان لا وعاء إفناء ودمار.
ونصل إلى موضوعنا الأصلي الخاص باستقالة جورج ميتشيل ونتساءل: من هو الوسيط الذي يستطيع أن يختصر جميع العوامل السابقة ويلغيها ويحطم آثارها؟ ما القوة السياسية التي تستطيع أن تنقي سرائر الأطراف المختلفة من كل كوامن الكراهية، حيث تقنع الجميع بإمكانية حل المشكلة؟ وهل الإبقاء على إسرائيل في أرض سرقتها هو الحل السحري كما تصوره وسائل الإعلام الغربية؟ أم أن قوتها وقوة حليفتها هي التي تجعل هذا الأمر مستمرا وبذلك تغلق أبواب الحلول الأخرى كافة؟
إن ميتشيل حلقة في سلسلة، ربما تتكرر حيث يرى فيها حكام واشنطن نمطا إداريا يتولى التعامل مع الملف الشائك. ولكن الواقع يقول إنه حتى لا يستقيل من سيخلف ميتشيل لا بد من إدراك حقائق جديدة، والتعامل باستنارة مع الاعتبارات التي أوردناها كافة.