القمة تكفي لأكثر من واحد
اعتاد كثير منا رسم قمة الجبل على شكل رأس مدبب لا يستوعب سوى موطئ قدم واحدة. ويبدو أن هذا النمط التفكيري صاحب كثيرا منا في نواح كثيرة من حياتهم؛ فالمكانة الاجتماعية والتعليمية والمهنية التي عادة ما تصاغ على وزن (أفعل) ينبغي عند كثير ألا يحتلها سوى اسم واحد فقط. فهناك شخص واحد هو من يستحق أن يطلق عليه أفضل مدير، وشخص واحد يحمل لقب أحسن طالب، ومكان يتيم لأبرع جراح، وهكذا. وتطور عند قليل منا لكنهم من المؤثرين هذا النمط من التفكير لتكون المعادلة لديهم بالمقلوب، فأصبحت القناعات تُبنى والنصائح تُسدى بأنه إذا تمكن شخص قبلك في مجال ما فابحث عن مجال آخر غيره.
إلا أن كثيرا مما اعتدنا عليه ليس بالضرورة صحيحا؛ فالقمة في أكثر جبال الأرض مسطحة وتكفي لأكثر من شخص، وهي كذلك في كثير من مجالات الحياة تستوعب أكثر من متقن وتتسع لأكثر من متميز. وفي مسيرة بناء وتنمية الكفاءات البشرية المتخصصة على مستوى الدولة أو المنظمة الإدارية أو حتى على المستوى الفردي فإن شعار "القمة تكفي لأكثر من واحد" له فوائد عدة:
فمن شأن الإيمان بهذه القناعة أن تشحذ همم راغبي التميز لتسلق قمم كانوا يظنون أنها محجوبة عنهم وأن يخفف من حدة أعراض المنافسة التي قد تتولد بين متسلقي الجبل الواحد إذا ما أدركوا أن القمة التي يستهدفونها تستوعبهم جميعا، وتستوعب آخرين معهم. وهو كذلك محفز غير مكلف لشحذ همم أولئك الذين يتربَّعون على القمم لتحسين مستمر لمهاراتهم ومواصلة المسيرة في الرقي بقدراتهم، عندما يعلمون أن هناك من يشاركهم القمة. وإذا ما تفهَّم هذا الشعار شاغلو القمم فإن عملا جماعيا تكامليا من المرشح أن يتحقق بينهم ليكون مثالا رائعا لبقية الناس، وهو ما يسرّع في انتشار مفهوم العمل الجماعي، ويحاصر مفهوم الفردية التي تسيطر على مجتمعاتنا في مستويات التفكير والتدبير.
"القمة تكفي لأكثر من واحد" شعار قد يهم شرائح المجتمع كلها إلا أنه أكثر إلحاحا في المجال التطوعي الذي يتشكل بوتيرة متسارعة في مناطق المملكة العربية السعودية، ذلك أن البيئة التطوعية بما يحمل أفرادها من نوايا نبيلة وطموحات متفائلة ينبغي أن تكون بعيدة كل البعد عن الأعراض السلبية للمنافسة التي تعرقل المسيرة وتبعثر الجهود.
وما ينطبق على الأفراد ينطبق على المنظمات كذلك في القطاع التطوعي والخيري الواسع؛ فوجود منظمة خيرية ناجحة في مجالٍ ما لا يعني توقُّف الآخرين عن إيجاد منظمة أخرى مشابهة؛ لسبب بسيط ومنطقي هو أن المجال يستوعب أكثر من منظمة ناجحة، والمجتمع ما زال في حاجتهما جميعا.
إن الرسالة التي تحاول أن تبثها هذه الأسطر ليست القناعة بـ "أن هناك أكثر من قمة "بل إن" القمة الواحدة تكفي لأكثر من واحد".