روائح من المطبخ الأمريكي ـ الإسرائيلي
منذ أكثر من 30 عاما كتبت دراسة مطولة بعنوان ''الولايات المتحدة والصراع العربي ـــ الإسرائيلي''، وتناولت فيها موقف الولايات المتحدة من إسرائيل منذ الإعلان عن قيامها في أيار (مايو) عام 1948، وبعد تحليل مطول استغرق عشر حلقات، كل واحدة على صفحتين، خلصت الدراسة إلى أن الولايات المتحدة تعد أن حماية إسرائيل جزء من سياستها القومية ومصلحتها الوطنية.
والطريف أن الكلمات والمفردات التي استخدمها تردمان ووزير خارجيته رين أتشيسون وأيزنهاور من بعده ووزير خارجيته الشهير جون فوستر دالاس ثم جون كنيدي ووزير خارجيته هيرتر ثم رين راسك الذي بقي مع خلفه ليندون جونسون بعد اغتيال كنيدي ثم نيكسون ووزير خارجيته وليام روجرز ثم هنري كيسنجر ثم فورد ومعه كيسنجر ثم كارتر ومعه سايروس فانس وريجان ووزير خارجيته هيج وجورج بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر.. كل هؤلاء أجمعوا على عبارة لا تتجاوز سطرين، قوامها أن أمن إسرائيل هو أمن أمريكا!
ويبدو أن اللعبة مستمرة؛ لأن الظروف التي أوجدت هذا الموقف لم تتغير، والظرف التاريخي المتكرر هو الانتخابات الأمريكية والورقة المهمة كما وقر في ذهن المرشحين للرئاسة هي إرضاء اللوبي الصهيوني لكسب أصوات اليهود من خلال التأكيد على حماية يهود إسرائيل ودعم دولتهم.
نصل إلى الرئيس أوباما الذي يمارس اللعبة نفسها بالحرف الواحد. فقد أعلن الرجل أن حل المشكلة الفلسطينية سيتم من خلال الاحتكام لحدود 1967 ليجد نفسه تحت سيل عارم من الهجوم من جانب الأقلام الأمريكية المأجورة لإسرائيل والمتعاطفة معها والصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية واليهودية في الولايات المتحدة تندد به، وزادت المعركة لهيبا عندما زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واشنطن يوم الثلاثاء الماضي، وألقى خطبة عصماء عن ''قوة العلاقات الإسرائيلية ـــ الأمريكية وأهمية السلام''، كانت هذه الخطبة قمة المطلوب لتنطلق جوقة المنشدين الإعلاميين، وعلى رأسهم رجال البيت الأبيض.
وقد بدأ بن رودس، وهو أحد مستشاري أوباما، أنشودة التوافق بقوله: ''سنواصل العمل لتحقيق هدفنا المشترك الذي أشار إليه رئيس الوزراء اليوم، والذي يقوم على أساس حل الدولتين الذي سيكون في مصلحة الجميع''.
ثم دخل رودس في وصلة حول تماثل أفكار واشنطن وتل أبيب حول إيران، وكيف أن واشنطن بناء على اقتراح رئيس الوزراء الإسرائيلي ستزيد من فعالية العقوبات المفروضة على إيران''.
ووافق مساعد أوباما نتنياهو على أن ''حماس'' تمثل الإرهاب، ولا يمكن أن تكون شريكا في السلام حتى تعلن اعترافها بإسرائيل وتوقفها عن اللجوء للإرهاب!
ولعل أهم ما توقف عنده رودس هو أن إعلان الدولة الفلسطينية لن يتم من خلال إعلان الاستقلال من جانب واحد كما فعلت دول كثيرة من قبل، لعل أشهرها روديسيا (زيمبابوي حاليا)؛ لأن جميع القضايا تجب مناقشتها مع إسرائيل. وهو المطلب الإسرائيلي الأول، أما أبرز ألوان التراجع فقد ورد على لسان رودس عندما قال إن تصريح الرئيس أوباما عن العودة لحدود 1967 قد أسيء فهمه؛ لأن الرئيس يقترح تبادلا للأراضي، والأهم أن أوباما يتفهم وجهة نظر نتنياهو الذي قال إن حدود 1967 لا يمكن الدفاع عنها، وإن أهم ما في المسألة هو أمن إسرائيل، وأصر رودس على أن أوباما وفي أثناء مناقشته للمسألة مع الحلفاء الأوروبيين، فإنه سيعلن رفضه لإعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد، بل سيصر على معرفة دور ''حماس'' في الحكومة الفلسطينية المقبلة.
وواصل أوباما الذي سيقدم على الانتخابات العام المقبل معزوفته عن إسرائيل، فقال أمام المؤتمر السنوي لسياسة إيباك أكبر لوبي ضاغط لصالح إسرائيل إنه ''صديق حميم لإسرائيل، ويفهم التحديات التي تحيط بها، ولذلك فسوف يقدم لها آخر ما وصلت إليه التقنية الأمريكية خاصة شبكة الدفاع الصاروخية المساماة ''القبة الحديدية''.
وقال أوباما إنه من فرط حبه لإسرائيل فقد أبدى أعلى درجات التشدد في فرض العقوبات على إيران، فضلا عن رفض أي شكل من أشكال الانتقاص من الشرعية الإسرائيلية، وأيد أوباما إسرائيل في موضوع ''تقرير جولد ستون'' الذي ألمح إلى بعض الإدانة بسبب فظائع إسرائيل ضد المدنيين والنساء والشيوخ والأطفال.
وعلى خلفية التصفيق الذي بدأه التجمع اليهودي عندما قال إنه ''صديق حميم لإسرائيل''، واصل أوباما نفخ مزامير الولاء أو النفاق أو الرعب أو الاستجداء، وأصر على أن المفاوضات المباشرة هي الطريق الوحيد لأي سلام، وليس بوسعنا ''أن ننتظر عقدا وعقدين وثلاثة؛ لأن الحياة تتحرك بسرعة، ما يعني أن مزيدا من التحديات ستواجه إسرائيل، والتأخير سيضر بأمن إسرائيل ويعرض سلام الشعب الإسرائيلي للخطر''.
وكرر أوباما النغمة المعهودة من جانب رؤساء أمريكا بأن أحدا لن يفرض شيئا على إسرائيل خاصة مع تبادل الأراضي في إطار التفاوض. وكرر أوباما عبارة تبادل الأراضي ليثبت لأعضاء الإيباك إصراره على إصلاح تصريحه السابق، ولم ينس القول بأنه ''أسيء فهمه كما يحدث كثيرا!''.
ويرى المحللون أنه اقترب تماما من تبني جورج دبليو بوش رؤية شارون حول المستوطنات والموافقة على توسيعها، بل إن أوباما قال: ''إن صداقتي مع إسرائيل تملي عليَّ أن أدعها تحقق كل ما ترغب وترى من مصالحها. فضلا عن دوري في تخفيف الضغوط الدولية والعربية عليها. وتقليل الإحباط والعداء وعدم المرونة الفلسطينية''.
ولاحظ المراقبون حالة الخنوع التي أبداها الرئيس عندما بدأ يشرح مشاعره عندما لمس حائط المبكى وصلى بين الأحجار العريقة، وتذكر الحنين الإسرائيلي الذي استمر آلاف السنين ليعودوا إلى وطنهم القديم. وهي نغمة فاقت أكثر الرؤساء تضرعا لليهود. والعجيب أن خطاب أوباما في القاهرة قبل عامين ابتعد كثيرا عن هذا الخط. ولم يضيع يهود الإيباك الفرصة، فقاطعوه مرارا وهو يبدي ندمه على تسرعه وحديثه عن حدود 1967، وكان بعض اليهود يبدون امتعاضهم لمجرد أنه ذكر عام 1967، حتى بعدما ألحقها بعبارة ''مع تبادل للأراضي في المفاوضات؟''.
ورغم كل هذا التأييد فقد تخوف الإسرائيليون من حديث أوباما عن مبررات إعلان الفلسطينيين دولتهم من خلال الأمم المتحدة ومن طرف واحد، فقد قال صراحة: ''إنهم أيضا فقدوا صبرهم لبطء عملية السلام، وعدم ظهور مؤشرات إيجابية في الأفق، ويوافقهم على ذلك كل العرب بل أمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا، وهذا الضيق يتزايد يوما بعد يوم، وبدأت أصداؤه تتصاعد في عواصم العالم''.
وقد انتشى نتنياهو بالتأييد الأمريكي المطلق فأعلن رباعية تنم عن ازدراء العالم: لا لحدود 1967 ولا لعودة اللاجئين، ولا لتقسيم القدس، ولا لاتفاق المصالحة. أي أن التأييد الأمريكي شجع إسرائيل على العودة إلى مربع رقم (1)، وتكرار أساليبها المراوغة والعنيدة، فقال نتنياهو: إن قضية اللاجئين ستُحل خارج حدود إسرائيل، أي ينبغي تعويضهم أو البحث لهم عن أراض لدى الجيران، وأن القدس ستبقى عاصمة أبدية لإسرائيل، وأن ''حماس'' لن تصلح كشريك، وأن الدولة الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح بالكامل مع وجود إسرائيلي عسكري على طول حدودها.
أليس من حقنا أن نعجب إزاء صيحات أوباما بضرورة عدم ترك القضية لعقود أخرى؟ مع أن دعمه المطلق لإسرائيل جعل نتنياهو يجد الشجاعة لرفض كل شيء، وفرض دولة تذعن تماما لمحتل على الحدود لا يتكفل حتى بثمن الاحتلال ولا يتعرض لحرب تحرير.
ونأتي لتقييم لقاء أوباما ونتنياهو الذي وصفه الإسرائيليون بأنه كان ''صريحا ومباشرا ووديا''، ومع اعتراف الطرفين بعدم التوافق في بعض الأمور، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي خرج من الاجتماع في حالة معنوية أفضل مما دخله.
وأصر نتنياهو أن يعلنها صراحة أن السلام يجب أن يقوم على قواعد راسخة لا على أوهام، ومن أهم ما عَدَّهُ من الأوهام ''عودة اللاجئين'' التي وصفها بأنها لن تحدث، وسعد الجانب الإسرائيلي بتصريح أوباما بأن السلام الحقيقي يتحقق عندما تتمكن إسرائيل تماما من الدفاع عن حدودها. وأخذت إيران قسطها من الحديث بين القيادتين الأمريكية والإسرائيلية. ولعل أهم ما توصل الطرفان إليه هو مراقبة الثورات التي تهب في الشرق الأوسط والتنسيق المستمر حولها؛ لأنهم يكنون مشاعر غامضة.