الأمن والسياسة والاقتصاد.. متلازمة النجاح في المشهد المصري
لم يجانب الشاعر حافظ إبراهيم الواقع كثيرا حين اعتبر أرض الكنانة مركزا للشرق، وأن خياراتها تحد اتجاه البوصلة نحو الحرب أو السلام. هذا الإحساس الذي سكن في القلب منذ زمن طويل، دفع بي لتسجيل أول زيارة للقاهرة، بعد ثورة 25 يناير، التي أنهت مرحلتها الأولى بتنحي الرئيس مبارك عن الحكم في 11 شباط (فبراير) الماضي.
كان من الطبيعي أن أبدأ بزيارة لميدان التحرير، مركز الجاذبية في الأحداث التي شهدتها مصر. ويومها انطلقت تظاهرة في ميدان التحرير، ضد الفتنة الطائفية. عند الظهيرة، رفعت أعلام الدول العربية، وفي المقدمة منها العلم الفلسطيني. هتف الجميع لعروبة فلسطين، ونددوا بالاحتلال الإسرائيلي، كما هتفوا ضد الفتنة الطائفية ومحاولات تفتيت وحدة النسيج المصري. لقد عجزت محاولات سلخ هذا الشعب عن عمقه الاستراتيجي العربي. تداخلت الشعارات الوطنية والقومية.
لقد تداخل التنديد بالفتنة الطائفية، مع الانتصار لحق الشعب الفلسطيني. لقد اختزل المشهد علاقة موضوعية ألهبت الكفاح المصري، هي علاقة الحرية بالكرامة، التي يمثل الحفاظ على الوحدة الوطنية المصرية، وتحرير الأرض العربية السليبة، شرطيهما اللازمين.
تسوقنا هذه المقدمة، إلى الحراك السياسي المحتدم على عدة جبهات في مصر: جبهة تشكيل أحزاب سياسية، تمثل تطلعات الجيل الجديد. هذا الجيل تشكله اتجاهات سياسية متنافرة، لبرالية ويسارية وإسلامية وقومية، وحدته تجاذبات اللحظة. لقد أدرك هذا الجيل بعد اقتناصه للحظة التحول، أنه لا يكفي أن تتجه مع التيار، وأن الأهم هو التهيؤ لمرحلة التنمية والبناء، وذلك ما لا يمكن تركه للحركة العفوية ولا لقوانين الصدفة.
ولأن عملية الخلق للأحزاب السياسية، وصياغة برامج مستقبلية هي شأن إنساني، فإن من المتوقع أن تتعدد الاجتهادات، لتعكس حقيقة التوجهات السياسية التي تملك حضورا قويا على أرض الواقع. لكن الحكم في النهاية هو لصناديق الاقتراع. والصراع، في سياق كهذا أمر بديهي، بل ومطلوب أخذا بمقولة زعيم صيني: ''دع مائة زهرة تتصارع من أجل أن تتفتح زهرة''.
وما دام الحديث عن صناديق الاقتراع، فمن الطبيعي أن ننتقل إلى تنافس النخب السياسية للوصول إلى مقاعد البرلمان. والحماس في هذا الاتجاه غير مسبوق. فالكل لديه ثقة بأن الانتخابات المقبلة ستعبر بصدق عن رغبة المصريين، ولن يكون هناك تزوير أو إعداد مسبق للائحة الفائزين.
أحزاب المعارضة دون استثناء، تعمل على حصد أكبر عدد من المقاعد في البرلمان. كما يجري تنافس محموم على موقع الرئاسة، حيث يتنافس على هذا الموقع أعداد كبيرة من المرشحين، من ضمنهم عمرو موسى، الذي غادر قبل أسابيع قليلة منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، ومحمد البرادعي، المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الدولية، وحمدين صباحي العضو السابق في مجلس الشعب وعبد المنعم أبو الفتوح، إحدى القيادات الإخوانية السابقة، والقاضي هشام بسطاويسي والقانوني الدكتور عبد الله الأشعل، وأعداد المرشحين في ازدياد.
لكن الاستفتاءات التجريبية الأخيرة تشير إلى أن ثلاثة من بين المرشحين هم الأكثر حظوة بمنصب رئيس الجمهورية: عمرو موسى والدكتور محمد البرادعي وحمدين صباحي. لكن الأيام يمكن أن تكون حبلى بالمفاجآت.
تتباعد المسافات، بين برامج هؤلاء المرشحين، بين من يركز على المسألة الديمقراطية وترسيخ مبدأ تداول السلطة، ومكافحة الفساد بينما يغفل مسألة العدل الاجتماعي، ويتجاهل قضايا مهمة كمعالجة العشوائيات، والبطالة والفروقات الطبقية وتدني الأجور. كما تغفل عددا من البرامج الحديث عن بوابات مصر العربية والإفريقية والإسلامية. ويحيد معظمها عن عمد، موضوع الصراع العربي ــــ الصهيوني. وتؤكد باستثناءات محدودة جدا، على التمسك بمعاهدة كامب ديفيد للسلام في الشرق الأوسط، التي وقع عليها الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، ورئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه مناحيم بيجن.
في سياق العلاقة مع الكيان الصهيوني، ومسألة التطبيع، يتجنب المرشحون الخوض في هذا الموضوع، لكن بعضهم يتحدث عن سلام بارد محتمل بين مصر والكيان الغاصب، وأن مصر لن تكون جسرا للعبور الإسرائيلي إلى المنطقة العربية، ولن تكون حليفا استراتيجيا لهذا الكيان. ويركزون على العلاقات المتوازنة مع القوى الإقليمية، دون استثناء، بما يخدم التطلعات المشروعة لشعب مصر، ومصلحة الأمة العربية. اللوحة السياسية المصرية، تحوي توجهات تتكون من أقصى اليمن إلى أقصى اليسار. وليس بمقدور أي جهة كانت، ادعاء القدرة على حصد معظم المقاعد. إن معنى ذلك أن معظم هذه التوجهات ستجد لها حضورا نسبيا، تحت قبة البرلمان. وسيكون لذلك تأثير بكل تأكيد على التوجه العام لبرنامج السلطة التشريعية، الذي يتوقع أن يكون فضفاضا، حتى وإن جرت بعض الائتلافات. لكنه في النهاية يجسد خيار شعب مصر.
الموضوع نفسه سيتكرر، في انتخابات الرئاسة المصرية، فأمام كثرة عدد المرشحين، ليس من المتوقع أن يحوز أي منهم بمفرده ثقة الناخبين، فقد منحت إحصاءات أولية نسبة 20 في المائة من الأصوات لأفضل اثنين من المرشحين، بينما نال الثالث نسبة 12 في المائة، أما الرابع فقد حصل على نسبة 6 في المائة من الأصوات. معنى ذلك أنه حتى بعد الفرز النهائي، لن يتمكن أي مرشح من تجاوز نسبة الـ 50 في المائة المطلوبة للفوز بمنصب الرئاسة. والحل الممكن، في ظل هذا الواقع، هو أن يتآلف أكثر من مرشح، على هذا المنصب مقابل حصول المرشح الأكثر حظا على منصب رئيس الجمهورية، وحصول الذي يليه على منصب نائب رئيس الجمهورية.
في ظل هذا التزاحم، فإن أفضل ما يمكن الوصول إليه، هو تحقيق ائتلافات سياسية مرحلية، بين توجهات ورؤى متنافرة، لن تتمكن من الاستئثار بقبة البرلمان إلا عبر مساومات تأخذ من حصة كل منها، حيث لا يبقى في النهاية سوى القليل القليل من المشتركات. وفي النهاية لن تبقى سوى لوحة رمادية تتجاذبها أطراف الحكم يمنة ويسرة.
ولا شك أن شرط خروج مصر بسلام من المرحلة الانتقالية التي تمر بها، إلى مرحلة تصبح فيها قادرة على تأكيد حضورها، محليا وإقليميا ودوليا، رهن لنجاحها في محاور ثلاثة: الأمن والسياسة والاقتصاد. وهذه العناصر، متداخلة ليس بالإمكان الفصل بينها، وشرط نجاح أي عنصر منها متوقف على نجاح الآخر.