ألمانيا تعيش في المستقبل أكثر من الحاضر
الكل يحترم ألمانيا وإن كان البعض يخاف من فائض قوتها، فألمانيا القوية وزيادة تخيف العالم لأنها أن كشرت عن قوتها فأسنانها من حديد، ولكن ألمانيا الحديثة قد استوعبت الدرس وصارت قوية أكثر من السابق، ولكنها استبدلت أسنانها الحديدية بأسنان ناعمة ولينة، فألمانيا تقود أوروبا وأوروبا راضية بقيادة ألمانيا لها، فاقتصادها هو الأكبر وقوتها المادية من الصعب أن ينازعها أحد، فإذا انهارت دولة عضو في الاتحاد الأوروبي كانت ألمانيا هي المنقذ لها وإذا أرادت أوروبا أن تجدد شبابها فلن تجد غير ألمانيا من يعيد لها شبابها. فألمانيا قد هزمت شر هزيمة في الحرب العالمية الثانية، وخرجت من الحرب وليس في خزينتها غير 45 مارك وهي اليوم عضو في نادي السبعة الأغنياء في العالم، فهي إلى وقت قريب، قبل أن تتجاوزها الصين، أكبر دولة مصدرة في العالم. فجيوش الحلفاء وطائراتهم قد دكت مدن ألمانيا، ولكن الألمان إلى اليوم يعملون لإعادة كل حجر إلى مكانه بتقنية أحدث وبمتانة أفضل من السابق. لم يشغلوا أنفسهم بما حدث لهم وبما وقع عليهم، ولكنهم سارعوا كفريق واحد للنهوض ببلدهم وأمتهم وبسرعة وكان لهم ما أرادوا. فهم خرجوا من الحرب وكل شيء عندهم قد ناله التدمير الهائل، وبعد الحرب أخذت منهم آخر ما توصلوا إليه من العلوم، واضطر علماؤهم للهجرة أثناء الحرب وبعد الحرب، ولكن ما إن وضعت الحرب أوزارها وعادت الحياة من جديد حتى اشتغلت الماكينة الألمانية لتعوض عن كل ما فقدوه وأكثر. فألمانيا خسرت كل شيء ولم يبق لها غير الأرض والإنسان والثقة بالنفس، وهذا يكفي لقيام أمة وصناعة حضارة. خرج الألمان من الحرب ببطون جائعة ولكنهم اقتطعوا من لقمتهم ليحفظوا ثقافتهم، فهم يعلمون أن التنمية ليست فقط أحجارا تصف على بعضها، فالتنمية المادية من دون أن يصحبها تنمية ثقافية هي بنيان واه سرعان ما ينهار على أصحابه. فشاهد العالم الألمان وهم بقدر ما كانوا مشغولين ببناء المصانع كانوا أيضا مشغولين ببناء المتاحف وترميم الآثار وتعزيز الفنون، فكل ما بين متحف وآخر كان هناك متحف جديد تحت الإنشاء. فالتنمية في لغة الألمان هي ثقافة أولا ومن ثم يأتي البناء والعمران. فكيف لنفوس أن تحقق كل هذه المعجزة العلمية والاقتصادية من غير أن تحتضنها ثقافة تؤمن بالإنسان ولا ترى حدود لإمكاناته ولا نهاية لطاقاته.
مشكلة العالم اليوم، ونعني به العالم المتقدم وليس بالعالم المتحجر، مع ألمانيا هي أنها تسرع الخطى في تجاوز الحاضر والعيش في أحضان المستقبل، فالمستقبل هو أكثر ما يشغل ألمانيا اليوم. أحست بأن نظامها التعليمي لا يصلح للزمن الذي لم يولد، وكان القرار بأن يستحدث نظام تعليمي جديد يطير بالطالب الألماني إلى المستقبل بسرعة الضوء، ولم تحتج ألمانيا إلى خطط خمسية أو عشرية ولم تشغل نفسها بجدال عقيم يشترك فيها الحابل والنابل وتدور حول مواضيع لا علاقة لها بالتعليم والتطوير العلمي من بعيد ولا من قريب، وجاءت النتائج في أقل من سنتين، فالمدارس تحولت إلى مصانع تمد الإنسان الألماني بكل المهارات المطلوبة ليكون مبدعا ومنتجا في المستقبل، وقفزت الجامعات بما حصلت عليه من دعم مادي وتنظيمي لتتحول إلى مصانع للعقول، فالجامعات والمدارس صارت توزن بما عندها من فكر وبما لديها من إبداع، وصار الطالب الألماني ينتج من العلم أكثر مما يستهلك، وصار الطالب يأتي إلى الجامعة وهو مستعد بما عنده من مهارات ليشارك أستاذه في تطوير العلم والخروج بأفكار جديدة.
وفي مجال الطاقة، صارت ألمانيا تتكلم وكأنها قد قطعت نصف القرن الحالي، فهي وضعت لنفسها خطة مفصلة ومدعومة ماديا وعلميا وتنظيميا ستجعلها في عام 2050 دولة تعمل وتشتغل بالكامل بالطاقة المتجددة والنظيفة. فألمانيا تريد وستفعل ذلك أن تأخذ الطاقة من كل المصادر الطبيعية المتاحة، من الشمس والرياح والمخلفات على أنواعها ومن الحرارة المحبوسة في باطن الأرض. فهي اليوم تصيد الرياح العابرة أرضها وتقتنص منها طاقة كهربائية تسد ما يفوق 20 في المائة من حاجتها الكلية، وهي تتطور علميا بسرعة في مجال الطاقة الشمسية، فهي تتحسر على هذه الطاقة المهدرة والتي يصل منها إلى الأرض في الدقيقة الواحدة ما يكفي حاجة العالم لمدة سنة كاملة. فسطوح المنازل والمباني في ألمانيا باتت محطات لتوليد الكهرباء، حتى أن مبنى البرلمان الألماني صار مكتفيا بنفسه في إنتاج ما يحتاج إليه من الكهرباء، والعائلة الألمانية صارت تفكر في إنتاج الكهرباء المشمس ومن ثم تبيع الزائد منه إلى شركات الكهرباء والتي تدفع لهم أسعارا أعلى مما تبيع لهم. ومن يصدق أنهم يفكرون في استعمار والاستحواذ على شمسنا، فشمسنا الحلوة صار يسيل لها لعاب الألمان، فهي تفكر، وأعني بالتفكير هنا هو المراحل الأخيرة من إعداد الخطط الفنية والهندسية، لزراعة صحراء شمال إفريقيا بالخلايا الشمسية ومن ثم نقل ما تنتجه من طاقة كهربائية عبر شبكة كهرباء ذكية إلى أراضيها، فهم اليوم لا يفكرون في بترولنا بل بشمسنا التي زهدنا بها حتى صرنا نتجنبها بالكامل، النوافذ مغلقة وزجاج السيارات نكسوه بالأفلام المظللة وماذا كانت النتيجة، أن رقّت عظامنا وصار مرض هشاشة العظام يصيبنا ونحن شباب كما هو الحال مع مرضي السكري والضغط وغيرهما.
كل ما تحلم به بعض الأمم هو أن تعيش حاضرها وتنشغل بواقعها الملامس لها، ولكن الألمان استكثروا من عوامل القوة وصارت لهم القدرة على أن ينفكوا من جاذبية الحاضر إلى حيث المستقبل، صحيح أن الإنسان لا يستطيع أن ينفك من الحاضر إلا بسلطان، وهذا ما تنشغل به ألمانيا اليوم، فهي تريد أن تراكم على ما عندها من قوة وقدرة لتسبق الآخرين في الوصول إلى المستقبل. فما هي عناصر القوة في ألمانيا التي جعلتها أقدر من غيرها من الأمم في تجاوز الحاضر والطيران نحو المستقبل للإمساك به، فمن أهم هذه العناصر ما يلي:
1-العمق في المعرفة: لكل موجود في هذا الكون طبقات والطبقات التحتية والعميقة تنطوي على قدرة وجود أكبر من أعلاها، فجسد الإنسان عنده طاقة مادية كبيرة، ولكنها لا تقارن بالمرة بما عند طبقة الروح من طاقة لأنها متصلة بالقدرة المطلقة. وهكذا العلم، فكلما تعمقت به كشف لك من أسرار هذا الوجود أضعاف ما كنت تعلم، وسخر لك من الإمكانات أضعافا مضاعفة لما كنت تقدر. وألمانيا اليوم تزداد إدراكا بهذه الحقيقة. فالبحث العلمي هو اليوم ما يشغل ألمانيا، فهي تريد أن تحول كل شيء إلى مختبر لإنتاج الأفكار ولا تستثني أي مجال من أن يكون له نصيب من هذا الإنتاج الفكري، فهي تريد أن يكون جل رأسمالها فكريا، حتى مناسبة استضافتها لكأس العالم لكرة القدم قبل الأخيرة وظفتها لإنتاج المزيد من العلم، وكانت النتيجة المئات من الاختراعات والأفكار الجديدة.
2-الإتقان في العمل والجودة في المنتج: إذا كان العلم هو المقدرة على فعل شيء فإن العلم لا يكتمل أثره في حياة الإنسان إلا بتوظيفه، والألمان لا يكتفون بتوظيف علومهم بل يسعون إلى أعلى درجات الإتقان في فعلهم. فالعلم عندهم لا تكتمل دورته إلا بإنتاج أجود الأشياء وبأحسن الطرق. فالمنتج الألماني لابد من أن يكون في أفضل درجات الجودة. فالألماني لا ينافس الآخرين في تصنيع الأشياء الرخيصة والرديئة بل تشغله الجودة والإتقان حتى والفكرة في بداية حياتها. فحالما تولد الفكرة يصب عليها العقل الألماني من فكره وخياله لينتج منها ما يبهر العقول بجودته. ونحن نعلم أن الجودة تعني وجود مواصفات ومعايير عالية ومن يتخذ لأشيائه معايير عالية فهو بالتأكيد يريد أن يعيش حياته أيضا حسب مستويات ومعايير عالية.
3-الإدارة الممزوجة بالحكمة: الحياة خليط من الأشياء والممارسات والمطلوب من الإنسان أن يربط هذا الخليط من خلال أشكال من العلاقات والنظم لينتج منها بالنهاية وظيفة معينة، فحسن هذا التنظيم بين الأشياء والممارسات يكشف عما عند الإنسان من حكمة. فالألمان يهتمون بالإدارة والتنظيم ويكفيهم بأن الأوروبيين اختاروهم ليحفظوا لهم أموالهم، فألمانيا هي مقر البنك المركزي الأوروبي. ويكفيهم الألمان حكمة بأنهم ينظمون أمورهم بأجزاء من الثانية، فالوقت له قيمته الأعلى في الثقافة الألمانية. فالدقيقة الألمانية الواحدة ثقيلة لكثرة ما يريد الألمان من أن ينتجوا فيها فكرا وإنتاجا حتى أنها لثقلها ربما تعادل شهورا وحتى سنوات من زمن الشعوب الأخرى. فالإدارة والتنظيم عندما تمارس والحكمة تحيطها وتظلل عليها، والحكمة هي الرؤية السليمة للحياة، فإن هذه الإدارة ترتقي بمجتمعها إلى عليين، "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"، الآية رقم 269، سورة البقرة.
أخيرا، ألمانيا فعلا تسافر في الزمن، فهم يعيشون الحاضر بأجسادهم، وأما عقولهم فهي قد وصلت إلى محطة عام 2050 وما بعدها، وكيف لا يطوون الزمن وهم الآن لا يفكرون فقط باستخدام طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة المتولدة من الحرارة الموجودة في باطن الأرض، بل إنهم يؤمنون بأن ما عند الإنسان من طاقة جبارة لو توصلوا إليها لصارت قفزاتهم ليست بالسنين، وإنما بالعشرات من السنين وأكثر. فالخلية الواحدة في جسم الإنسان عندها من الطاقة ما يكفي لإنارة مدينة كبيرة مثل نيويورك، فهل هناك مخزون للطاقة أكبر من الإنسان نفسه وكيف سيكون الحال إن امتطى الألماني نفسه ليطير إلى المستقبل.