حل مشاكل النقل الجوي الداخلي (2)
تناولت في الأسبوع الماضي الأسباب الثلاثة الأساسية التي تعوق تطور خدمة النقل الجوي الداخلي وكيفية حلها من وجهة نظر الهيئة العامة للطيران المدني والتي حددتها في قضايا: قيود التسعير، والدعم الحكومي الانتقائي، ونقاط الخدمة الإلزامية. وانتهينا إلى أن تأخر التصدي لهذه المشاكل وترتبت عليه زيادة الاختناقات وتدهور مستوى الخدمة بشكل صارخ، الأمر الذي انعكس سلبيا على بقية قطاعات الاقتصاد إما بشكل مباشر أو غير مباشر. وأشرت بصفة خاصة إلى أن خطر هذه الاختناقات أكبر من مجرد توفير مقاعد لزيد أو عبيد أو تسيير رحلات إضافية هنا أو هناك، فلهذه الاختناقات ذيول ومضاعفات اقتصادية سلبية نحن في غنى عنها. وضربت مثلا بأثر تراجع قطاع النقل على فوات فرص توليد وظائف جديدة الأمر الذي يعمق من مشكلة البطالة في اقتصادنا. هذا الوضع أدى وسيؤدي إلي فقدان وظائف عديدة وجدت مع الشركات التي بجانب الخطوط السعودية، فضلا عن الوظائف المحتملة الضائعة بسبب عدم فتح باب المنافسة الحرة في هذه السوق. وتقدر دراسات صادرة عن الاتحاد الدولي للنقل الجوي (الأياتا IATA) أن كل مليون راكب (مسافر) يوفر أربعة آلاف وظيفة! وإذا كانت الإحصاءات قد أظهرت أن شركتي سما وناس مثلا قامتا بنقل نحو 1.2 مليون راكب في عام 2007، ونحو 1.3 مليون راكب في عام 2008، فهذا يعني إمكانية توفير 4800 وظيفة بشكل مباشر أو غير مباشر.
وكان بعض القراء قد تداخلوا ببعض الأفكار على مقالة الأسبوع الماضي، التي وجدت من المفيد أن أعقب عليها. منهم الزميل الدكتور قصي الخنيزي الذي علق قائلا: ''إن لديه شكوكا حول كون سقف الأسعار الحالي مؤثراً، فتجربة طيران سما والخيالة وناس قد تشير إلى القدرة على المنافسة والتفوق على الناقل المهيمن ضمن حدود الأسعار الحالية إذا ما تم توفير أرضية منافسة متساوية بأسعار وقود متساوية ودون تمييز في جميع الخدمات اللوجستية ''. بينما علق أحمد الجبالي قائلا: ''إن أسعار النقل الدولي تثبت أن الأسعار الحالية للنقل الداخلي مناسبة للدرجة السياحية، وخيالية للأفق والأولى مع أن الرحلات الدولية تشمل مبالغ تدفع للمطارات الدولية وهو ما لا ينطبق داخليا. وأن النقل الدولي يشمل أيضاً أسعار الوقود الدولية لرحلات العودة، وهو ما لا ينطبق داخليا. ولذلك فإن ما يضمن الأسعار المناسبة هو المنافسة المفتوحة بين شركات حقيقية تحصل على تصاريحها بالمنافسة المعلنة وتحصل على المزايا نفسها. أما الدليل الاسترشادي فسيكون مآله كغيره من الأدلة التي لا تضر ولا تنفع''.
والحقيقة أن القول الفصل في عدم مناسبة أسعار الطيران الداخلي مع التكاليف التشغيلية للشركات ينبغي أن يرتكز على دراسة موضوعية، وليس على انطباعات شخصية. وفي الدراسة التي أطلعني عليها الأخ عبد الله رحيمي رئيس هيئة الطيران المدني السابق ما يدل على أن أسعار النقل الجوي الداخلي في المملكة منخفض عن مستويات الأسعار في دول عديدة (كأمريكا، جنوب إفريقيا، داخل إفريقيا، شرق أوروبا، الهند). وأن هذه الفجوة بين الأسعار والتكاليف تزيد في المسافات القصيرة. لكني أتفق مع المعلقين الفاضلين أن نجاح سوق الطيران الداخلي يستلزم من حيث المبدأ أن تخضع رخص التشغيل لمنافسة حقيقية معلنة، فضلا عن توفير بيئة تنافسية عادلة ومتساوية في معاملة جميع الشركات سواء تعلق الأمر بأسعار وقود تفضيلية (وهو ما لا نؤيده على المدى الطويل) أو تعلق بخدمات لوجستية تفضيلية.
أما موضوع الدليل الاسترشادي للأسعار ففكرته تقوم على الاعتماد على إجمالي معدلات الأسعار لكامل الشبكة وليس الأسعار الفردية. وذلك بناء على معادلة تتركب من التكلفة التشغيلية (التي يتم تحديدها وفق معايير قياسية معروفة في صناعة الطيران) وهامش ربح مدروس، بجانب معدل الحمولة ومسافة الطيران. ووفق هذا الدليل الاسترشادي لن يسمح للشركات بالزيادة على مستوى ''معدل الأسعار'' المحدد في الدليل وذلك بالنسبة لمعدل كامل الشبكة التشغيلية. لكن سيسمح لها بالزيادة على مستوى ''معدل الأسعار'' الاسترشادي إلى حد 25 في المائة في كل قطاع على حدة، بشرط ألا يتجاوز المجموع متوسط إجمالي الأسعار الاسترشادي لكامل الشبكة. في مقابل منحه الشركات كامل الحرية في التسعير على مستوى الأسعار الفردية طالما اتفق متوسط المجموع الكلي مع متوسط كامل الشبكة في دليل الأسعار الاسترشادي. ووفقا لهذا التنظيم، من المتوقع أن يكون معدل الزيادة في أسعار التذاكر الحالية ما بين ( 154 إلى 169 ريالا) في كل القطاعات. ومع ذلك فإن 60 في المائة من المسافرين سيدفعون أسعارا أدنى من معدل أسعار الدليل الاسترشادي. بينما يدفع 20 في المائة منهم أسعارا أدنى من أسعار التذاكر الحالية. وأعتقد أن هذا التنظيم مقبول في المرحلة الأولى من إعادة تنظيم السوق حتى استقراره، أما في المدى البعيد فمن الأفضل والأكفأ إداريا واقتصاديا أن يترك التسعير لمحددات العرض والطلب.
كذلك اقترح الدكتور الخنيزي أن تنظر الهيئة العامة للطيران المدني فيما يتعلق بمشكلة نقاط الخدمة الإلزامية في إمكانية الاستفادة من فكرة صندوق الخدمة الشاملة الذي قامت بتطبيقه هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، حيث تهدف مشاريع هذا الصندوق إلى نشر خدمات الاتصالات الصوتية والإنترنت ذات النطاق العريض (البرود باند) بالمناطق النائية. ومع أن الفكرة العامة لصندوق الخدمة الشاملة يمكن أن تكون مفيدة لمسألة نقاط الخدمة الإلزامية، إلا أنني أعتقد أن حيثيات صناعة النقل الجوي وتفاصيلها تختلف عن صناعة الاتصالات. وعموما فإن هيئة الطيران المدني كان لديها تصور لحل مشكلة نقاط الخدمة الإلزامية، يقوم على ربط الجهات منخفضة الحركة برحلتي ذهاب وإياب يوميا إلي أقرب مطار محوري عن طريق طائرات صغيرة تتناسب مع حجم الحركة. ولذلك اقترحت الهيئة تطوير مطار حائل ليصبح مطارا محوريا ثانويا في المنطقة الشمالية بجانب المطارات المحورية الثلاثة الرئيسة: الرياض، وجدة، والدمام.
وأجدني أخيرا أتفق مع ناصر الجهني الذي كتب مؤكدا أن صناعة الطيران ليست نشاطا مربحا بشكل عام في كل دول العالم، ولذلك فهو يخشى ألا يكون في البحث عن مكونات التكاليف للناقل الجوي حل سريع لمأزق النقل الجوي الداخلي، وأن الحل الفوري هو في السماح لناقلات مجلس التعاون بالمشاركة في النقل الجوي الداخلي ومنحها حوافز تفضيلية على الوقود والخدمات اللوجستية، وهو أمر لا يمس سيادة النقل الجوي الداخلي طالما كانت هناك حاجة مؤقتة وملحة، وهذا ما سبق أن أكدت أن أوروبا تسمح به. أصبح تطوير وحل مشاكل النقل الجوي الداخلي ضرورة ملحة وتحتاج إلى قرارات سيادية عاجلة.