إيران.. خلافات داخلية وضغوط خارجية
مهما حاول النظام الإيراني عبثاً التغطية على الخلافات الداخلية المتمثلة في الصراع على مراكز صنع القرار في إيران والمنافسة المستميتة على مصادر مالية مثل وزارة النفط التي تعتبر البقرة الحلوب لهذا النظام، إلا أنّ هناك تصدعات داخلية بدأت تظهر في بنية كيان النظام الإيراني، وفي مقدمة هذا الصدام ما شهدته الأسابيع الماضية من حرب مكشوفة بين قوى موالية للولي الفقيه وأخرى أكثر ولاء للرئيس نجاد، حيث أسفرت هذه الخلافات عن مشادات كلامية ومواقف متشنجة بين الفريقين ما فسره البعض على أنه بداية النهاية للنظام وبقائه، فحالة التصدع التي تواجه النظام الإيراني تغيرت صورتها، حيث كان الصراع قائما آنذاك بين المحافظين والإصلاحيين منذ عام 2005 ووصلت أزمة الحكم إلى قمتها بين الطرفين عام 2009، لكن اليوم تحول هذا الصدام الذي ينذر بصراعات على السلطة إلى مزيد من التمزق، خاصة أن هذه الأزمة تعد الأخطر منذ قيام الثورة، لأنها وقعت بين تيارين من نفس التوجه العقائدي.. فالخلافات والصراعات السياسية بين أركان النظام الإيراني بدأت قبل قبول استقالة وزير الاستخبارات مصلحي من قبل نجاد، وإصدار المرشد قراراً حكومياً يلزم نجاد بإبقائه في منصبه، فالتوتر الحاصل بين مؤيدي نجاد والمرشد جاء على خلفية جملة من القرارات التي اتخذها نجاد وعارضها أنصار الولي الفقيه، وإن قبل نجاد ببعض تدخلات المرشد كان ذلك على مضاضة، وهذا ما أشعل فتيل الأزمة بين الجانبين.
تؤكد بعض المعطيات أن ما يدور في إيران اليوم بمثابة انقلاب من نوع جديد ربما تشهده إيران في القريب العاجل، والذي يدير الانقلاب وبطله مشائي مدير مكتب نجاد، والمستهدف من هكذا انقلاب هو المرشد نفسه وحاشيته.
ما أثار الكثير من الشكوك ويثير هو ماهية الصراعات وسريانها إلى قمة الهرم في إيران بين ولي الفقيه ''الأب'' والولد العاق ''أحمدي نجاد''، حيث يقع هكذا تمرد لأول مرة ويعد سابقة تاريخية فريدة في عمر الثورة الإيرانية التي كان رؤساء الجمهورية فيها يتلقون الأوامر من قبل المرشد بكل ترحاب وينفذونها برضى تام ولم يجرؤ أي رئيس إيراني سابق على مواجهة السلطة الثيوقراطية للمرشد في إيران باعتباره ''ظل الله في الأرض''، فهل ما يحدث لإيران من هزات ارتدادية نتيجة هذه الخلافات ستلد جيلاً جديداً ''تيارمشائي''من رحم النظام الإيراني كما حدث للثورة إبان رئاسة بني صدر؟ وهل سيلد من هذا المخاض العسير ثورة من نوع جديد على شاكلة الثورات الماركسية، أم أنها ستوأد في النطفة كما وئدت من قبل هكذا محاولات في تاريخ الثورة الإيرانية؟ هذا ما ستجيب عنه الأحداث في الأشهر القادمة في إيران.
أطلق أنصار المرشد علي ''تيارمشائي'' لقب ''التيار المنحرف''، وهذه التسمية تعيد للأذهان صفة ''تيار الفتنة'' الذي كانوا قد وصفوا به التيار الإصلاحي، ما مهد الأرضية إلى تصفيته واعتقال رموزه ومن ثم القضاء عليه بشكل تام، فهل تعني هذه التسمية بحد ذاتها مقدمة للانقضاض على تيار نجاد قبل تناميه؟ يبدو أنّ الانقلابات في إيران متواصلة، ففي كل عقد يحدث انقلاب وانشقاق في النظام على مر العقود الثلاثة الماضية، فقد تحول أصدقاء الأمس في ظل نظام ولي الفقيه إلى أعداء اليوم، وأيضاً أعداء الأمس تحولوا أصدقاء بناء على هذا المبدأ ''تحالف رفسنجاني مع خامنئي ضد عدوه نجاد''، وبدأ الحديث عن التقارب بين الإصلاحيين والمحافظين الموالين للمرشد ضد تيار نجاد الذي يعتبر عدوهم الأول في البلاد، والعملية نفسها جرت داخل حكومة نجاد، حيث خرج عدد من الوزراء والمستشارين ضد رئيسهم ولجؤوا إلى المرشد خوفاً من نقمته عليهم فالحبل جرار.
في هذه الأثناء صرح أعضاء في مجلس خبراء القيادة من بينهم آية الله عبد النبي نمازي، أن المرشد وجه الحرس الثوري في لقاء جمع كلا من قائد الحرس محمد علي جعفري والمرشد علي خامنئي بضرورة اعتقال أقارب ''مشائي'' وليس اعتقال الأخير، وذلك رغم رغبة الحرس في اعتقال مدير مكتب نجاد نفسه، كما هي حال التصريحات التي تصدر من البرلمان ضد نجاد وأعوانه رغم دعوة المرشد لهم بطي صفحة الماضي وعدم الظهور بهذا الشكل أمام الشعب وكأن الشعب ممنوع عليه معرفة ما يجري.
يرى البعض أن أسباب تصاعد الأزمة تعود إلى لقاءات المرشد مع كبار مراجع التقليد في قم خلال زياراته المتكررة لهذه المدينة، حيث بدأت قيادات في الحوزة الدينية في قم وعلى وجه الخصوص مراجع الشيعة الكبار، الشعور بالقلق الكبير حيال إمكانية تولي مشائي رئاسة الجمهورية بعد نجاد، وذلك بسبب ما يكنه الأخير من حقد لهؤلاء في مناسبات عدة واتهامهم مشائي بـ ''تسيير الخلاف للمراجع عند نجاد''، هذا ما دفع لاستفحال الأمور بين هذه التيارات في إيران.
يستغل مشائي استعمال الكره في الشارع الإيراني ضد رجال الدين وعلى رأسهم المرشد لتحريض السياسيين الليبراليين وأعوانهم ضد رجال الدين من أجل تمهيد الطريق للوصول إلى كرسي الرئاسة في عام 2013، لأن نجاد لا يمكنه الترشح لولاية رئاسية ثالثة بحسب الدستور الإيراني، إلا في حال حصل على غالبية الأصوات في الانتخابات البرلمانية القادمة منتصف آذار (مارس) القادم، لتمكنه من القيام بتعديل البنود الدستورية التي تمنعه من الترشح لولاية ثالثة.
تشير التقارير إلى أن المسرح السياسي الإيراني يتعرض للعديد من التأثيرات الداخلية وعلى رأسها تحرك الشعوب غير الفارسية في اتجاه الضغط للحصول على مطالبها في حق تقرير المصير، ما انعكس هذا الأمر على قمة الهرم في إيران وأحدث هذا الإرباك بين قياداته، أضف إلى ذلك فإن الضغوط الخارجية من قبل الغرب حيال ملف إيران النووي وملفها فيما يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان جعل من الصعب على هذا البلد مواجهة الضغط الخارجي، وسوف يقدم تنازلات كبيرة للغرب لو استمر الحال كما هو عليه، فمن الصعب أن يتصور أي شخص بأن تكون إيران بمنأى عن التأثيرات التي تدور حولها من ثورات في العالم العربي والحركة الاحتجاجية الشرق أوسطية، فمن المتوقع أن تتزايد فعاليات المعارضة السياسية الإيرانية أكثر من أي وقت مضى عبر دفع الشعوب غير الفارسية للقيام بالمزيد من التحركات الجديدة تماشياً مع الظروف الحالية التي تمر بها هذه البلاد.
ففقدان إيران لحلفاء استراتيجيين مثل نظام بشار الأسد سيعقد الأمور على طهران، أضف إلى ذلك ما تسربت من معلومات حول أن يلاقي حزب الله اللبناني الحليف الأول لطهران مصير دمشق، هذا ما سيضع طهران بين فكي الخلافات الداخلية المتزايدة بين رموز النظام من جهة وازدياد الضغط الغربي من جهة أخرى، وثورة الشعوب غير الفارسية، فهو الفك الآخر لهذه الكماشة.
يبدو أن كل مناسبة خلافية بين أركان النظام توسع من الهوة بين رموز النظام، فقضية دمج الوزارات وتولي نجاد وزارة النفط وغيرها من المشاكل الخلافية خلقت حالة من الانقسام والتشتت في الرأي العام الإيراني عما سيحدث للنظام ومصيره في المستقبل. فهناك عدة احتمالات قد تحدث لو استمرت الأمور على ما هي عليه في المستقبل القريب:
أولاً: إرغام نجاد على تقديم استقالته ولو رفض سيتم عزله في البرلمان.
ثانياً: في حال تحقق هذا الأمر سيحول المرشد الحكومة المقبلة للإصلاحيين غير الخارجين عن نطاقه لإرضاء طيف واسع منهم بعد ما حصل لهم في حزيران (يونيو) 2009، ومن المؤشرات القريبة لهذا الأمر البدء بإطلاق سراح بعض القادة الإصلاحيين من بينهم زعيم النقابات العمالية ''منصور أسانلو'' وعدد آخر من القيادات الإصلاحية من السجن.
ثالثاً: استمرار تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية جراء العقوبات التي تضيق الخناق على المسؤولين الإيرانيين، سيخرج الناس إلى الشارع، ما يجعل البلاد تشهد اضطرابات مزمنة قد تطيح بالنظام في نهاية المطاف.
رابعاً: قيام قيادات في الحرس الثوري بانقلاب عسكري ضد نجاد والمرشد معاً والمسك بزمام الأمور ومن ثم الدخول في صفقات مع الدول الغربية. مهما يكن فإن الخلافات التي بدأت تمزق جسد الثورة الدينية في إيران قد تنهك الموالين لها وتصيبهم بإحباط كبير، وهذا بحد ذاته بداية الانهيار لأي نظام مر بهذه المراحل، وستتغير خريطة الشرق الأوسط هذه المرة في حال سقط النظام الإيراني بما تحمله الكلمة من معان.