وإنّ من بدأ المأساة ينهيها
تعكس الأوامر الملكية الأخيرة التي أقرت عددا من البرامج والسياسات المتعلقة بقضايا التنمية البشرية رغبة سامية بأهمية تضافر الجهود للتصدي لقضايا الشباب باعتبارهم يمثلون أمل الأمة وعدة مستقبلها وأكثر أعداد سكانها. ومن المتوقع أن تؤذن هذه البرامج ببداية مرحلة جادة تهدف لتوفير فرص وظيفية جديدة وتحقيق قفزة نوعية في مجال التنمية البشرية. وستسهم هذه الجهود في حال تطبيق هذه السياسات والبرامج دون عوائق في ضبط تيار الاستقدام والسيطرة على معدلات البطالة العالية.
والحقيقة أن اقتصادنا لا يعدم توليد وظائف مستمرة وكافية، خاصة في أوقات الرخاء وتوسع الإنفاق الحكومي، إلا أن طبيعة وهيكل سوق العمل في بلادنا تحد من استفادة السعوديين من هذه الفرص. ولذا جاءت القرارات الأخيرة لإصلاح هذا الخلل برفع تكلفة العمالة الأجنبية ووضع حد أدنى للأجور. آن الأوان لكسر هذه الحلقة المفرغة وتحمل قطاعات المجتمع مسؤولياتها الوطنية كافة في مجال التوظيف والتدريب، وعدم تحميل هذا العبء على القطاع الخاص وحده، وخاصة على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة خشية من عدم قدرة هذه المؤسسات في هذه المرحلة الانتقالية على تحمل شروط العمل الجديدة، الأمر الذي يؤدي إلى خروج أصحاب هذه المؤسسات من السوق وانضمامهم إلى قافلة العاطلين الباحثين عن عمل.
وفي تصوري أن نجاح هذه البرامج يقتضي أمرا آخر لا يقل أهمية، وهو أن يتم الإعلان عن توجهات أخرى جادة وصارمة تتعلق بتذليل العقبات الإدارية والتنظيمية كافة أمام أي شاب أو مواطن يرغب في البدء في مزاولة نشاطه الخاص، وذلك من خلال تبسيط إجراءات تأسيس المنشآت، وتجميع هذه الخدمات تحت سقف واحد أسوة بما فعلته الهيئة العامة للاستثمار مع الأجانب! ومن قرأ مقالة الزميل الشاب خالد البواردي في صفحة الرأي في هذه الصحيفة يوم الأحد الماضي الرابع من حزيران (يونيو) 2011 المعنونة: مذكرات تاجر مهاجر، يدرك الكم الهائل من المعوقات التي استوطنت جهازنا الحكومي باسم التنظيم والتنظيم منها براء، وكم نحن نخرب بيوتنا بأيدينا ونزيد من حمئة البطالة علمنا أم لم نعلم!
في سلسلة مقالاتي الأخيرة التي خصصتها لمأساة الطيران المدني الداخلي اتضح أن هناك حقائق بات يعلمها ويعرفها الجميع ولا يختلفون عليها، وهناك من ناحية أخرى اجتهادات ووجهات نظر متعددة في كيفية العلاج أو في أولوياته.
أما الحقيقة الكبرى التي لا مراء فيها والتي باتت ماثلة أمام الجميع فهي التدهور المتسارع والصارخ في خدمات النقل الجوي الداخلي كما وكيفا، بسبب استمرار اتساع الثغرة بين مقدار العرض المتاح من هذه الخدمات ومقدار الطلب عليها. ولسنا نرى بوادر لوضع حد لهذه المأساة. وهو تدهور يدل في نهاية الأمر - أيا كانت المبررات - على الفشل التام. والعجيب أن جميع الأطراف التي لها علاقة بهذه الخدمة كانت تعرف وتتصور النتائج السلبية التي ستؤول إليها الأمور، سواء كانت مباشرة كالاختناقات الحادة والتدهور المعيب في مستوى الخدمة، أو كانت غير مباشرة على قطاعات الاقتصاد الأخرى، وأهمها فوات فرص وظيفية محققة نتيجة إخفاقنا عن أو بطئنا في اتخاذ القرارات المناسبة لتطوير صناعة النقل الجوي نوعيا وزمنيا!
إنه لمن المؤلم والمؤسف حقا أن يتوافر اقتصادنا على موارد عالية وفرص كافية ثم نفشل في استغلالها بالكفاءة المناسبة. يصعب على النفس أن ترى جيرانا لنا يستغلون مواردهم وفرصهم المحدودة أفضل استغلال فيحققون نتائج مذهلة، ولا يولد هذا فينا حافزا لتجديد الهمم وسرعة إصلاح المسار. لقد وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها الغير يبني جزءًا من نجاحه على أكتاف تراجعنا. وما زالت التقارير الدولية تؤكد أن إجمالي الوظائف المباشرة وغير المباشرة التي نجح قطاع الطيران في دبي في توفيرها بلغ نحو 250 ألف وظيفة، حققت نحو 80 مليار درهم، وأسهمت بنحو 28 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لدبي! لا شك أن هذا النجاح العالمي لهذه الإمارة في مجال الطيران هو وليد رؤى نافذة وعزائم ماضية وهمم عالية ونوايا صادقة وسياسات صائبة، أساسها الشفافية والمنافسة العادلة.
إنني على يقين أن القرارات والتوجيهات الملكية الأخيرة القاضية بكسر الحلقة المفرغة في مجال التنمية البشرية تعليما وتدريبا وتوظيفا، ستتلوها قرارات أخرى لكسر حلقات التردي في مختلف قطاعات الاقتصاد، فالتطورات الجارية والتحديات المتوالية لا تسمح بأي تأجيل.
خاتمة:
كان الزميل الفاضل الدكتور سعد الأحمد قد أنهى تعليقه الثري على سلسلة مقالاتي عن الطيران المدني في الأسبوع الماضي بشطر جميل من قصيدة شهيرة للشاعر نزار قباني, قال فيها: فإن من بدأ المأساة ينهيها، وإن من فتح الأبواب يغلقها، وإن من أشعل النيران يطفيها. وها أنا أرغب فعلا في ذلك، وأود أن أودّع القراء الأعزاء وأتوقف عن الكتابة لفترة قد تمتد لثلاثة أشهر قادمة لحاجتي الماسة إلى متابعة وضع شريان رجلي اليمنى الذي أوشك على الانسداد في منطقة حرجة خلف الركبة، راجيا منهم الدعاء لي ومتمنيا للجميع الصحة والعافية، ولوطننا العزة والسلامة والمنعة. والحمد لله أولا وآخرا.