القضاء يحتاج إلى تطوير فعال من الناحية العملية
الحمد لله القائل في محكم الكتاب على لسان موسى ـــ عليه السلام: ''قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وأحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي'' (الآيات: 25 ـــ 28 من سورة طه)، والصلاة والسلام على الوالي والقاضي الذي يُسترشد بسيرته العطرة، وبعد:
إن الذي شدني للكتابة عن القضاء ما قرأته في مقال بعنوان ''جهاز القضاء في المملكة.. هل هو حل أم مشكلة؟'' بقلم الكاتب فهد بن عبد الله القاسم المنشور في هذه الصحيفة بتاريخ 28/6/1432هـ الموافق 31/5/20011هـ، وما أثاره من ملحوظات كَثُر الحديث عنها من قبل المختصين وغيرهم من ذوي الاختصاصات الأخرى، بل عامة الناس ممن لهم تجارب في قضايا تخصهم. وبحكم مزاولتي مهنة المحاماة مدة تزيد على 12 سنة، وجدت أن من واجبي الأدبي أن أشارك بجهدي المتواضع فيما أعتقد أن فيه فائدة تؤدي إلى الإصلاح، ومعالجة كل قصور أو تقصير أو أخطاء غير متعمدة، وبشكل تلقائي وذاتي، على أساس أن من يحصل منه ما ذكر يقتدي بقول عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه: ''رحم الله امرئ أهدى إليَّ عيوبي''، فضلاً عن أن القضاة من البشر الذين يمكن أن يحصل منهم الخطأ والتقصير والقصور، فليسوا معصومين من ذلك، إلا رسول الهدى الذي قال الله عنه في محكم الكتاب: ''وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى'' (سورة النجم الآية ـــ 3،4)، فالكاتب أشار في مقاله الذي أشرت إليه إلى أن بعض ممثلي الشركات الأجنبية لا يثقون بالقضاء المحلي في المملكة، ويصرون على شرط التقاضي خارج المملكة، وأشار إلى بعض أسباب هذا الإصرار، ومن ذلك التأخير في حسم النزاع لأسباب عديدة لا أريد تكرار ما قاله، ولا ما أعرفه من أسباب عديدة، لكن أقول ما أعرفه ـــ فقط ـــ عن التأخير الذي يشتكي منه كثير من الخصوم، وكمثال جعلني لا أفكر في قبول الالتزام بأخذ قضية بعدها، فقد التزمت بعقد الترافع في قضية أخذت أكثر من سبع سنوات لم يُبَتُّ فيها بحكم نهائي، ومن أسباب التأخير البارزة تعاقب تغيير ناظر القضية ما جعل كل قاض ينظر فيها من جديد، ما تسبب في إطالة النظر في القضية، ولا أريد أن أفصل أكثر من هذه الإشارة الموجزة عن قناعتي بالاعتذار عن عدم أخذ قضايا بعد هذه القضية، بل غاية ما أنشده من الكتابة أن تكون هناك رقابة جادة وحثيثة وفاعلة من الجهات الرقابية التي خولت بذلك في القضاء العام، والقضاء الإداري في ديوان المظالم من حيث التزام القاضي بالحضور في المواعيد التي تحدد كموعد للنظر في الدعاوى، فلا يتأخر عن مواعيد الحضور المقررة؛ لأن مثل هذا إذا حصل ـــ بشكل متكرر ـــ يُعد استهانة بوقت أطراف النزاع، فالوقت بالنسبة لهم ثمين مثل غيرهم من البشر، ومنهم القاضي نفسه لو أنصف من نفسه، وتصور نفسه أنه أحد أطراف النزاع، فهل يقبل بهذا التأخير؟ لا أظن ذلك على الإطلاق، لكن ما يحصل خلاف ذلك بكل أسف، فقد تحدث إليَّ كثير من زملاء المهنة عن تأخرات تحصل لا يمكن ذكرها فقد تكون مبالغا فيها، وتذكر لي وكأن الأمر يُعد عادياً، وغير مستغرب من القضاة الذين يتأخرن عن الحضور في المواعيد المحددة، وما يستتبع ذلك من تأخير النظر في القضايا التي حدد النظر فيها باليوم نفسه، وهذا له انعكاسات كثيرة متوالية، ومنها التأخر في الفصل في القضايا خلال المدة المعقولة، فالرقابة الفعلية والعملية تُعد التطوير الحقيقي والعملي للقضاء بأنواعه، وهذه الرقابة لا تتعارض مع مبدأ استقلال القضاء، بل تُعد دعماً وتركيزاً لاحترام القضاء كسلطة مستقلة متى كانت عادلة ومنجزة لأداء الواجب بإتقان وحيادية واستقلال تام، ويتأتى هذا بالرقابة الذاتية أولاً ممن يخاف الله ويراقبه، وثانياً الرقابة من الجهات المعنية على كل أعمال القضاء، ومن ذلك على سرعة البت في القضايا، وسلامة الحكم فيما انتهى إليه من حكم عادل ومنصف بأسباب سائغة، ووسائل إثبات واضحة، وهذا يتحقق من خلال درجات التقاضي الثلاث في نظامي القضاء وديوان المظالم اللذين صدرا بالمرسوم الملكي رقم (م/78) بتاريخ 19/9/1428 هـ (المحكمة العليا، محاكم الاستئناف، محاكم الدرجة الأولى)، و(المحكمة الإدارية العليا، محاكم الاستئناف، المحاكم الإدارية)، فضلاً عن دور المجلس الأعلى للقضاء بالإشراف على المحاكم والقضاة وأعمالهم في الحدود المبينة في نظام القضاء (الفقرة ''هـ'' المادة ''6'') من خلال التفتيش القضائي في المجلس على أعمال القضاة (الفصل الرابع من نظام القضاء)، وهذا هو نفس اختصاصات مجلس القضاء الإداري في ديوان المظالم حسب سياق نص المادة 5 من نظام ديوان المظالم (... يتولى مجلس القضاء الإداري بالنسبة لديوان المظالم اختصاصات المجلس الأعلى للقضاء الواردة في نظام القضاء...)، فما صدر كان حصيلة ما وجّه به ولي الأمر خادم الحرمين الشريفين ـــ حفظه الله ـــ بشأن أهمية تطوير الجهات القضائية، وأسلوب التقاضي والتطوير النافع والمفيد، بحيث يستفاد من أحدث ما صدر من تنظيمات في الدول المتقدمة، وبما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية السمحة، والمهم هو التطبيق العملي للنظامين بوصفهما يمثلان التطوير الحقيقي ذا الفاعلية العالية من الناحية العملية، بحيث لا تبقى النصوص مجرد نصوص نظرية بعيدة عن التطبيق العملي.
ما تقدم اجتهاد متواضع من مواطن طرح ما يجول في خاطره في مقال قصير عن انطباع غير حسن ترسخ في ذهنه خلال خبرة قصيرة، بل قد يكون لدى عدد من مزاولي مهنة المحاماة، أو أشخاص كانت لهم قضايا جعلتهم يعايشون الوضع الذي يتذمر منه أكثر مما قلته في هذه العجالة، والذي آمل ألا يكون عاماً، بل يقتصر على حالات محدودة، لكن هذه الحالات تكون مستغربة، وتترك انطباعاً غير حسن يتناقل الحديث عنه في المجالس، أما الأعمال الحسنة والمستقيمة، فلا يتحدث عنها؛ لأنها من طبيعة الواجب والوفاء بالأمانة، وحَرِيٌّ بكل مَنْ وَلِيَ القضاء أن يتزود بالعلوم الشرعية، وأن يقرأ أي مرجع في تاريخ القضاء في الإسلام، فهو زاخر بالعلوم والتجارب والخبرة التي يستفاد منها، إذ سُطِّرَ عن قضاة لهم تاريخ حافل يستحق أن يذكر ويقدر مثل الشيخ (شريح والشعبي وإياس)، وغيرهم ممن أبرزت أعمالهم القضائية، وكتب التاريخ كثيرة كبيرة وصغيرة، وأذكر أنني اطلعت على كتاب صغير لا يتجاوز حجمه 250 صفحة، وهو كتاب ''تاريخ القضاء في الإسلام'' ـــ تأليف محمود بن محمد بن عرنوس ـــ القاضي في محاكم مصر الشرعية ـــ طباعة المطبعة المصرية الأهلية في القاهرة ـــ لم يذكر تاريخ الطبع، واستفدت منه فائدة كانت عوناً لي على أداء الواجب.
وأختم القول وأكرر أن التطوير الذي تضمنته نصوص النظامين يعد تطويرًا حقيقيًا له فاعلية عالية من الناحية العملية عند التطبيق الدقيق، بحيث لا تبقى النصوص مجرد نصوص نظرية بعيدة عن التطبيق، والله الموفق.