في ذكرى النكسة .. قراءة في أوراق حزيران

محطات ثلاث مثلت مجتمعة تطور المشروع الصهيوني، وبلوغه النتائج التي توصل إليها بعد نكسة حزيران (يونيو) عام 1967: وعد بلفور عام 1917، ونكبة فلسطين عام 1948، والنكسة. الملامح الرئيسة لهذه المحطات أنها استهدفت الأمن القومي العربي، وليس فلسطين وحدها. وفي هذه المحطات شهدنا انتقالا متوازيا في خطين رئيسين، شملا التاريخ العربي، والنظام السياسي الدولي. الملمح الآخر، أن هذه المحطات حدثت في ظل عجز عربي.
وضع وعد بلفور واتفاقية سايكس - بيكو ليضع الحجر الأساس، في الربط بين استقلال المشرق العربي وتحقيق النهضة، وبين تحرير فلسطين، ليجعل من فلسطين قضية العرب المركزية. وكانت نتائج الحرب الكونية الأولى، قد قسمت المشرق العربي، بين الاستعمارين التقليديين، البريطاني والفرنسي. أما النكبة فحدثت بعد اتضاح معالم الخريطة السياسية للعالم، بعد الحرب الكونية الثانية، وبشكل خاص، انزياح الاستعمار التقليدي، وبروز الولايات المتحدة، كقوة عسكرية عظمى، لا تضاهيها أي قوة أخرى فوق كوكبنا الأرضي. وهكذا تحقق تلازم المشروع الصهيوني، منذ بدايته مع مشروع إعاقة التحرر الوطني العربي، ليتأكد تلازم مشروع النهضة وتحرير فلسطين.
أما النكسة فمثلت انتقالا استراتيجيا في الصراع العربي - الصهيوني، وجعلت النظام العربي الرسمي، في القلب من الصراع. لقد أحدث النكسة دويا مروعا في التاريخ العربي. فقد حصد الصهاينة مساحات تماثل أكثر من ثلاثة أضعاف مساحة الأرض التي سطوا عليها في النكبة وأسسوا فوقها كيانهم الغاصب، وكانت لها تداعياتها وإسقاطاتها على الواقع العربي، وبضمن ذلك منظوماته الفكرية والسياسية والنهضوية. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح العرب أكثر انهماكا بمواجهة المشروع الصهيوني. فلم يعد صراعهم معه مجرد تضامن أخوي من قبل أشقاء مع شعب سلبت حقوقه، ولكن ترابهم الوطني نفسه أصبح في قائمة المصروفات العربية. وكان عليهم طرق كل السبل، وتلمس مختلف الخيارات من أجل تحرير أراضيهم. وفي أكثر من أربعة عقود جرب العرب خيارات الحرب والسلام، ولم يتمكنوا بعد من تحقيق أهدافهم.
لقد كشفت النكسة عن قراءة عربية غير دقيقة للمشروع الصهيوني، كمشروع حرب، يعتمد على المبادرة، والمخاتلة مستغلا حالات التشرذم والضعف في الأمة، متقدما بثبات نحو أهدافه. وتصور بعضنا خطأ أن بالإمكان تحييد الصراع معه، أو تأجيله حتى نستكمل العدة والعدد لخوض غماره. وكان آخرون يرون توجيه البوصلة نحو معركة البناء والتنمية بدلا من الصراع مع العدو، واتضح فيما بعد أن من يبني لا بد له من جبهة متينة، على الحدود وفي داخل الوطن.. وأن الفصل بين تحقيق التنمية وضمان الأمن عملية تعسفية.
كانت التهديدات ماثلة باستمرار أمامنا، وقادة العدو لفرط عنصريتهم، واعتدادهم بما يملكون من أرصدة وأوراق، ومساندة صناع القرار الدولي، لم يترددوا في الكشف عن أهدافهم. وكنا من وجهة نظرهم مجرد قطيع عاجز عن الحركة والفعل، وفي أحسن الأحوال، فإننا نتصرف بوحي من قانون الفعل ورد الفعل. وقد استقر في الذاكرة الجمعية لعتاة المشروع الصهيوني، ''أن العرب شعب لا يقرأ''. وهو تعبير ردده موشي دايان وزير الحرب ''الإسرائيلي'' أثناء عدوان حزيران (يونيو)، وبعد النكسة.
وما يدعو إلى الأسى أن مقدمات النكسة كانت واضحة، حيث بدأ الإعداد لها مباشرة إثر انتهاء معركة بور سعيد، التي واجهت فيها مصر العدوان: الإسرائيلي - البريطاني - الفرنسي عام 1956. آنذاك، أشار رئيس الوزراء ''الإسرائيلي'' موشي شاريت في مذكراته إلى أن القيادة ''الإسرائيلية'' توصلت إلى استراتيجية عسكرية تقضي بعدم السماح بتأسيس أي قوة عسكرية عربية يمكنها أن تتصدى للمشاريع الصهيونية. وبموجب هذه الاستراتيجية فإن على الكيان الصهيوني أن يخوض حربا واحدة على الأقل ضد العرب في كل عقد. ووفقا لذلك فإن الوقت التقريبي للحرب التي تلي حرب 1956، حسب مذكرات موشي شاريت هو عام 1966. معنى ذلك أن الصهاينة كانوا يعدون العدة لأكثر من عقد من الزمن لحرب حزيران (يونيو)، ويوفرون لها المستلزمات العسكرية والسياسية.
انهمك العرب، في رحلة البحث عن هوية، وتلفعت صراعاتهم بأشكال مختلفة، مجسدة هشاشة الهياكل وضعف مقاومتها أمام مختلف أنواع التسلل والغزو. وكانت النتيجة، أنه فرض علينا الدخول في مواجهة عسكرية غير متكافئة لم نكن مستعدين لها، بينما أعد لها العدو كل عناصر التفوق.. وهكذا انتهينا بالنتائج الكارثية للنكسة.
لم يكن ما تمخض بالميدان من نتائج سوقية، في نكسة الخامس من حزيران (يونيو)، هو الأخطر في المعادلة الجديدة للصراع، بل إسقاطاته على الواقع، وضمن ذلك منظوماته الفكرية والسياسية. وقد بدأت ملامح هذه التداعيات تفصح عن نفسها مبكرا، في الآداب والفنون العربية، بعدما يفترض أنه اليقظة و''عودة الوعي'' على حقيقة النكسة. واتخذت الهجمة على الأمة طابعا ساديا، شملت عناصر فعلها وحيويتها. وكان الأخطر أن التاريخ العربي اختزل في نتائج النكسة.
والأنكى من ذلك أن المثقفين الذين يفترض فيهم أن يكونوا ضمير الأمة والمدافع عن كينونتها، اختاروا أن يكونوا في مقدمة جلاديها. وغدا التاريخ العربي مجرد عنتريات لا تقتل ذبابة!. ولم يشهد التاريخ، ولعله لن يشهد أبدا حالة أكثر سوءا مما جرى للأمة بعد النكسة.. حالة تحول فيها المثقف إلى جلاد للذات والأمة والتاريخ.
وبالتزامن مع جلد الذات، سادت ثقافة التفريط، واعتبرت المقاومة خرافة وعدمية. وغلب ''السلام'' على الأمن، وتآكلت الحقوق بمتتاليات تتجه إلى الأسفل، حتى لم يعد لدينا ما نتفاوض عليه. وبين الفلسطينيين، تعمقت حالة الانقسام، وبلغت حد الاقتتال بين حركتي فتح وحماس، وعجز النظام العربي عن مساعدة الشعب الفلسطيني، في إنجاز حقه في الحرية وتقرير المصير.
وكان بالإمكان قبول النقد وإن كان جارحا، بل والمطالبة به لو أنه عبر عن طموح للصعود بالخط البياني للنهضة إلى الأعلى. لقد كان من المفترض أن تكون النكسة حافزا للعبور من حال إلى حال. وألا تتعدى كونها حلقة سالبة، في مسلسل الكفاح الوطني الطويل الذي خاضته وتخوضه الأمة دفاعا عن استقلالها ومستقبلها. وكان الأجدى إعادة قراءة التجربة العربية التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، بما لها وما عليها، من منظور واقعي وموضوعي.
فلم يكن العرب وحدهم الأمة التي واجهت هزائم وانكسارات. فكثير من الأمم تعرضت للغزو، ولفقدان الحرية، ونهضت من جديد، مستندة على إرثها ومخزونها الحضاري. هكذا كانت المقاومة الفرنسية بقيادة شارل ديجول.. وكانت خطب رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل تدعو البريطانيين لمقاومة الألمان في الشوارع والحقول.. وتطالبهم بالصمود أمام الغزو. وكان الحديث عن التاريخ والمجد والحضارة محرضا للمقاومة والقتال ضد النازية. وفي الثورة الإنجليزية غدت قصائد جون ملتون عنصر تحريض، يمد المقاومين بطاقة هائلة للاستمرار في المنازلة.
نحن إذا جزء من التاريخ، وتنطبق علينا قوانينه. نتقهقر وننكفئ ونتراجع في حالات، ونتقدم بخطوات واثقة وثابتة في حالات أخر، وعندما نتقدم يكون أحد مظاهر هذا التقدم شيوع الحرية وتطور الفنون والإبداع والتنمية والبناء. وحين نتراجع يسود الجهل وضحالة الفكر، ويصبح ''السلام الاستراتيجي'' لهثا وراء سراب، سرعان ما يتكشف أنه هوان وتفريط بالمزيد من الحقوق العربية.
لقد حضرت المقاومة بقوة بعد النكسة، وسجل الفلسطينيون، ومعهم أفراد من ضباط الجيش الأردني وجنوده انتصارا في معركة الكرامة. وباشر الجيش المصري التصدي لإسرائيل، بضرب إيلات، أهم مدمرة بالسلاح البحري ''الإسرائيلي''، وكانت معركة العبور وتحطيم خط بارليف، وتلاقي السلاح والنفط في المعركة، بعد الموقف الحاسم للملك الراحل فيصل بن عبد العزيز، في وقف تصدير النفط عن الدول التي تساند العدوان على الأمة، وصمود الجيشين المصري والسوري أمام أسطورة الجيش الذي لا يقهر.. علامات مضيئة في تاريخنا. لماذا إذا تستغل بعض الفضائيات مناسبة مرور ذكرى النكسة، لاستضافة ''دعاة ثقافة الهزيمة'' ليجعلوا من حزيران (يونيو) مناسبة لتشويه التاريخ العربي، ومحطة لجلد الذات العربية؟ هل هو إسهام في قتل الذاكرة العربية؟
أو ليس من حقنا أن نتفاءل بفجر عربي جديد، رغم ما يبدو من انحياز كامل للإدارة الأمريكية للمشروع الأمريكي، عبر عنه بوضوح خطابا الرئيس الأمريكي أوباما الأخيران. لقد بدأنا نلحظ سقوط ثقافة أناخت بقوة على واقعنا، وشلت قدرته على الفعل. لعلها بداية نقل الحلم من إرادة كامنة إلى واقع، هي التي تقف خلف اندفاع الفلسطينيين إلى عبور الحدود نحو أرضهم السليبة. ولعله موسم ربيع وتجدد أمل بانتفاضة جديدة تقربنا من فلسطين، والتقدم نحو البناء، ليستمر التلازم بطريقة عكسية بين جدل النهضة ومشروع تحرير فلسطين، كما كان الأمر دائما وأبدا، منذ تطلع العرب، للإمساك بزمام مقاديرهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي