ماذا بعد شراء إيران الأراضي الإسلامية في العراق؟
بعد أن أصبح حزب الدعوة يعتمد إيران مرجعية دينية له عوضا عن مرجعية محمد حسين فضل الله ـــ يرحمه الله ـــ واعتماد المرجع الشاهرودي مرجعا إيرانيا (عضو في مصلحة تشخيص النظام في إيران) ليكون الشاهرودي بديلا عن السيستاني الذي يعيش في حالة صحية سيئة، خاصة أن السيستاني رفض أخيرا استقبال مبعوثين عن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ما يؤكد أن الخلاف واضح بين الرئيس والمرجعية الدينية، الأمر الذي دفع المالكي للذهاب إلى إيران لطي صفحة المالكي، كما أن الشاهرودي يعد متتلمذا لمقتدى الصدر ما يضمن أيضا دعم الصدر لحكومة المالكي.
هذه التوليفة العجيبة دفعت بالحرس الثوري للاستفادة القصوى مما يجري في العراق وخاصة بعد موجة الاحتجاجات الداخلية وانكشاف تلاعبات رئيس الحكومة وقيام مجموعات تابعة له بأعمال التفجير والاعتقال والقتل، كان آخرها تفجير موكب عرس التاجي الذي راح ضحيته 70 شخصا ونسبت بالضد من رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي فقط لأن من قام بالعمل الإجرامي هذا كانت له صورة سابقة باعتباره رئيسا لمؤسسة مجتمع مدني وفي أحد المؤتمرات مع زعيم "العراقية" إياد علاوي، خاصة بعد انتهاء مهلة الـ 100 يوم للقيام بالإصلاحات، التي مضت دون أن تأتي الإصلاحات، فما كان من المالكي سوى الارتباط أكثر بإيران.
فقد سعت إيران لشراء الأراضي الإسلامية في العراق خصوصا تلك التي لها منزلة خاصة عند الشيعة مما دعا علماء العراق إلى إصدار فتاوى تحرم هذا البيع، وكان من أشهرها الفتوى التي أصدرها الدكتور عبد الملك السعدي التي أكدت بطلان قرار ضم المرقدين الشريفين في الحضرة العسكرية في سامراء والأراضي المحيطة بهما إلى الوقف الشيعي لأنه تجاوز على حقوق الآخرين، وهو أمر يرفضه أئمة أهل البيت ـــ عليهم السلام.
جاء ذلك في اتصال هاتفي تم بيني والشيخ عبد الملك السعدي، قائلا: "هذا القرار يُعَدُّ باطلا ومُحَرَّما شرعا"، وبين أن القرار الصادر من رئيس الوزراء نوري المالكي يعد: قرارا ذا بعد طائفي وأنه إعلان صريح بأنَّ العراق جزء لا يتجزَّأ من إيران، وأن ضم المرقدين إلى جهة دون أخرى ما هو إلاَّ تنفيذ لأوامر تأتي من خارج العراق، واعتداء صارخ على أهل سامراء أولاد علي الهادي والحسن العسكري ـــ عليهما السلام. كما أفتى الشيخ السعدي بحرمة بيع الدور أو قطع الأراضي حول الضريحين الشريفين لمن انخرط في سلك التوجه الطائفي.
وقال الشيخ السعدي: إنَّه يَحْرُمُ على من يملك دارا أو قطعة أرض حول الضريحين الشريفين أن يبيعهما لمن انخرط في سلك التوجه الطائفي؛ لأنَّ أيَّ وسيلة مُفرِّقة للأمة مُحَرَّمة شرعا؛ ولأنَّ الشريعة بمقاصدها فكل شيء يقصد به التفرقة فهو شر ولو كان السبب أو الوسيلة مباحة، فالشر وكل ما يوصِل إليه حرام، وما لا يتم الحرام إلاَّ به فهو حرام. ويجب على أهل سامراء الاعتزاز بوجود أملاكهم حول هذين الضريحين الطاهرين الشريفين، ويحرم بيعها لمن هو ليس من أهل سامراء؛ لأنهم أولى من غيرهم بذلك؛ وليجعلوا منها مأوى للزائرين تأدية لجزءٍ يسير من فضل أجدادهم عليهم.
ودعا السعدي إلى الابتعاد عن التصرفات الطائفية وأن يكفوا عن تلقي التوجيهات من خارج الحدود التي من شأنها محو هوية العراق ووجوده الإداري من لدن أهله.
الطموح الإيراني للسيطرة على العراق والتوسع في المنطقة العربية يعود إلى قرون خلت فقد أسس الصفويون إمارة صغيرة لهم في تبريز ومنها توسعوا في بلاد فارس وخراسان وأذربيجان وكردستان وديار بكر على حساب دولة الأق قوينلو ثم تقدموا بقيادة الشاه إسماعيل الصفوري إلى العراق احتلوا بغداد عام 1508. وقد شعر العثمانيون بخطر ظهور الدولة الصفوية، وخاصة على علاقتها بأوروبا التي كانت الدولة العثمانية تتقدم فيها.
لذلك جهز السلطان العثماني سليمان القانوني حملة عسكرية على تبريز ومنها إلى بغداد عام 1534 فكان ذلك بدأ عصر السيطرة العثمانية على العراق غير أن ذلك لم ينه الصراع على العراق بين السلالات الحاكمة في إيران والعثمانيين حتى الحرب العالمية الأولى ليعود للبروز وبقوة مع بداية حكم الخميني أو ما يعرف بالثورة الإسلامية في إيران، فمسلسل السيطرة والاستحواذ لم ينته وخصوصا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ودخول المجموعات الإيرانية والموالية لإيران لعبة السياسية وسيطرتهم على العراق وليس سرا أن الجميع بات يعرف أن إيران تستخدم جميع الوسائل لبقاء تلك السيطرة والتوسع في المشروع الصفوي نحو باقي المناطق في الدول العربية، وفي هذا السياق كثرة الدراسات والأبحاث والمقالات التي تشير إلى تمسك إيران في السيطرة والنفوذ على العراق، وفي هذا السياق نشرت "نيوزويك" الأمريكية مقالا مطولا تشير فيه إلى أن لدى إيران من القوى والنفوذ داخل العراق ما يمكنها من التدخل في شؤون وسياسات البلاد بالطريقة التي تراها بعد سحب الغازي الأمريكي قواته التي احتلت بلاد الرافدين سبع سنين عجاف. وأشارت "نيوزويك" إلى ما وصفته بالتغيير الكبير المحتمل الذي ستشهده بغداد، والمتمثل في النفوذ الإيراني أو خصم أمريكا الأول في البلاد وانعكاساته على العلاقات الدبلوماسية بين العراق والولايات المتحدة.
فقد أضحى النفوذ الإيراني الفارسي في العراق من المسلمات والبدهيات بعد سقوط النظام حزب البعث وما نتج عنه من انهيار كامل لجميع مؤسسات الدولة ومرافقها وبصفة خاصة المؤسسة العسكرية وما كانت تمثّله من توازن وهيبة وقفت حائلا ولعقود طويلة دون تحقيق الأهداف المعلنة والخفية للعمائم والقابعين في قم ومشهد وطهران أولئك الذين كانوا وما زالوا يحلمون باستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية في أوج سطوتها وجبروتها.
وقد توافرت لهم فرصة تاريخية لتحقيق ما عجزت أجيال منهم على إنجازه في حالتي السلم والحرب منذ سقوط الإمبراطورية الفارسية وإلى تاريخ 9/4/2003 ودخول قوات الغزو الأمريكية إلى العاصمة العراقية بغداد وما صاحب ذلك من فوضى عارمة اجتاحت الأخضر واليابس وطالت جميع مرافق الدولة والمجتمع وحالة من التدهور الأمني مهّدت عمليات لتسلل آلاف المندسين من الإيرانيين الحالمين في التوسع علاوة على آلاف الإيرانيين المنضوين تحت لواء ما يسمى بفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني والذين استقروا في أغلب المحافظات العراقية بأسماء عربية ووثائق هوية مزيفة.
وعن طريق هؤلاء وبواسطتهم استطاع القادة الإيرانيون أن يحكموا قبضتهم على أغلب المؤسسات السياسية في العراق ومن ضمنها مجلس الوزراء ومجلس النواب فضلا عن سيطرتهم العملية على أغلب الأحزاب الشيعية العاملة في بلاد الرافدين مثل ما يسمى بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة وجيش المهدي وحزب الفضيلة وجماعة أحمد الجلبي وغيرها من المنظمات والتيارات الشيعية التي ساهم حكم الملالي في تمويلها بالمال والرجال والعتاد حتى أصبحت كلها تدور في فلك إيران وتأتمر بأمرها وتنفذ إملاءاتها وتنخرط طوعا في مشاريعها التآمرية تحت عنوان مذهبي طائفي لخّصه السيد محمد علي الشيرازي أستاذ الحوزة العلمية في مدينة مشهد حينما صرّح لجريدة "القبس" الكويتية العدد 11262 السنة 33 بتاريخ 15/10/2004 الصفحة الرابعة قائلا: "إن من حق إيران أن تتدخّل في شؤون الشيعة في كلّ مكان لأنها هي ولية الشيعة ووجود عناصر استخبارات ليس جريمة سياسية لأن العراق بلد فيه جالية شيعية وتوجد به العتبات المقدسة والمرجعية الدينية". فمثل هذا التبرير يفسّر بالضرورة سعي إيران الدائم والمتواصل للسيطرة على بلاد الرافدين ومحاولة تصدير الفوضى والدجل والشعوذة إلى باقي الدول العربية التي تحتضن أقليات شيعية كالسعودية والكويت والبحرين وغيرها وكيف لا وقد اعتبرت إيران نفسها ولية للشيعة في العالم وشرّعت تحت هذا العنوان التدخّل السافر في شؤون العراقيين من خلال الزجّ بآلاف من العناصر الاستخباراتية وعشرات الآلاف من المجندين والعملاء والجواسيس. إذ كشف محمد المحدثين رئيس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية خلال مؤتمر صحافي عقد في باريس عن قائمة طويلة تضمّ أكثر من 31.690 عراقيا مرتبطين بنظام الملالي في إيران ويتقاضون أجورا شهرية، فالوثيقة التي نشرها المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية الجناح السياسي لحركة مجاهدي خلق جاءت دقيقة للغاية ومفصلة ودامغة بشكل أفقد الصفويين الجدد في إيران والعراق صوابهم وجعلهم مشدوهين، صمّ بكم عمي فهم لا يبصرون من هول الفضيحة، وهذا ما يفسّر تعدد الأصوات الداعية في أيامنا هذه إلى طرد منظمة مجاهدي خلق من الأراضي العراقية بحجة مساعدتها المقاومة الوطنية.
وفي واقع الأمر، فإن ما كشفت عنه تلك الوثيقة كان معلوما لدى أغلب المتابعين للشأن العراقي منذ سقوط بغداد إذ حذّرت التقارير الواردة حينذاك من تغلغل الإيرانيين داخل المدن العراقية من خلال مكاتب الاستخبارات العاملة تحت مسميات مختلفة أبرزها الجمعيات الخيرية والدينية والاجتماعية والثقافية وترتيب زيارة العتبات المقدسة مثل ما يسمى بمكتب مساعدة فقراء شيعة العراق الذي يعتبر واجهة لتجنيد آلاف العراقيين لفائدة المخابرات الإيرانية هذا فضلا عن شراء أكثر من 5700 وحدة سكنية بمختف المدن العراقية وخاصة في مدينتي النجف وكربلاء مما يؤكّد بصفة قاطعة أن التدخل الإيراني في العراق طال ما هو سياسي واجتماعي وثقافي وديني وأمني بشكل أصبح فيه العراقيون تحت رحمة العمائم الإيرانية وأضحى فيه العراق أسيرا للاحتلالين الأمريكي من جهة والفارسي من جهة أخرى وهو ما ينذر بالخطر على المدى القريب طالما لم يتفطّن العراقيون إلى حجم الكارثة ويتعاملوا مع الوجود الإيراني باعتباره احتلالا مثله مثل الاحتلال الأمريكي فهذا الأخير احتلال مكشوف ومباشر وعلني في حين أن الاحتلال الإيراني مغلّف بغطاء طائفي وديني.
مما يعيدنا إلى المربع الأول وطرح قضية وجود الشيعة العرب في العراق وما الآثار التي أسفر عنها إضعاف السلطة المالية للمؤسسة الدينية الشيعية العربية، وتراجع المصدر الرئيس لقوتها الفكرية "المدرسة" على موقع العلماء الشيعة وقدرتهم على تعبئة الشعب للعمل السياسي في العراق الحديث؟
في الأساس هو أن شيعة العراق تشيعوا عموما في عهد حديث، وأن عملية التشيّع كانت نتيجة تطور حدث في الغالب خلال القرن الـ 19 مع استقرار القسم الأكبر من عشائر العراق العربية الرحل وتوجهها إلى ممارسة الزراعة، وكان التشيع العراقي وما زال علويا وليس صفويا غير أن طهران ترى بضرورة إلغاء العلوية وجعلها صفوية.
وكان ظهور النجف وكربلاء بوصفهما معقلين للمذهب الشيعي منذ منتصف القرن الـ 19، مهد الأرض لعملية تكوين الدولة الشيعية هذه. واتسم تطور الكيان السياسي وتوسعه بتوطين العشائر ثم تشيّعهم خلال القرن الـ 19. وتسبب الاستقرار في تفتيت الاتحادات العشائرية القديمة، وتغيير التوازن بين الجماعات الرحل والجماعات المتوطنة. وأسفر قبول العشائر بالمذهب الشيعي عن قيام دين موحّد أكثر ونظام قيم أشد تماسكا يضم السكان الحضريين في مدن العتبات المقدسة وأفراد العشائر في عمق أراضي هذه المدن، وزاد توطن أفراد العشائر وقبولهم بالمذهب الشيعي على السواء، من درجة التراتب وسلطة المؤسسة الهرمية الحاكمة ضمن العشائر، وأفضيا إلى ظهور شخصيات جديدة تؤدي وظائف اقتصادية ـــ اجتماعية ودينية بين العشائر، ونشوء طبقات من وجهاء الشيعة ونخبة شيعية كان أعضاؤها يسيطرون على الموارد.
إن تطور الإسلام الشيعي تطورا متباينا في العراق وإيران خلال القرن الـ 20 كان يعكس الطابعين المختلفين من الأساس للمذهب الشيعي والمجتمع الشيعي في البلدين. وتتأكد أوجه التعارض بين المذهبين في الأنماط المختلفة للشكل الشعائري والتنظيمي الذي يرتديه المذهب في البلدين، وتكرسه هذه الأنماط بدورها في ظهور الدولة الحديثة. وتبين هذه الدراسة أن القيم الأخلاقية والثقافية الفريدة للمجتمع الشيعي العراقي والإيراني، كانت مبنية في صلب شعائرهما وممارساتهما الدينية. وتوضح الدراسة حقيقة أن الإسلام الشيعي العراقي والإسلام الشيعي الإيراني قد اختلفا اختلافا كبيرا في شكلهما التنظيمي، وهي ظاهرة تساعد على تفسير السبب في أن علماء العراق الشيعة لم يظهروا كعامل فعال في السياسة القومية، وأنهم لم يكونوا قادرين على تعبئة أعداد غفيرة للعمل السياسي.
وعلى الضد من الأصل الفارسي الإثني للأغلبية العظمى من الإيرانيين، فإن شيعة العراق عموما تميزوا بصفاتهم وقيمهم الأخلاقية، العشائرية العربية التي كانت تتبدى في شعائرهم واستمرت زمنا طويلا بعد قيام العراق الحديث. وعلى النقيض من التفاعل الوثيق بين تجار البازار والعلماء في إيران فإن طبقات التجار الشيعة في العراق كانت عموما على غير استعداد لضخ الموارد المالية في دعم المؤسسات والقضايا الدينية.