سياسة البغل وصاحبه في استراتيجيات المفكرين الأمريكيين.. إلى أين ستؤدي بالاقتصاد الأمريكي والعالمي؟
''إن الاستعانة بالجزرة أكثر فعالية من استخدام العصا إن كنت راغباً في قيادة بغل إلى الماء، ولكن البندقية قد تكون أكثر فائدة إذا كان هدفك هو أن تحرم خصماً من بغله''.
هذا جزء مما ورد في مقال المفكر الأمريكي البروفيسور جوزيف صموئيل ناي الابن ''هل تحل القوة الاقتصادية محل القوة العسكرية؟''، الذي نشرته جريدة ''الاقتصادية'' في عددها رقم 6453 المنشور بتاريخ 10 رجب 1432هـ (12/6/2011). وأضاف د. ناي أيضا ''إن الموارد الاقتصادية تشكل أهمية متزايدة في هذا القرن، ولكن من الخطأ أن نستبعد دور القوة العسكرية.. وإن الأسواق والقوة الاقتصادية تستندان إلى هياكل سياسية، والتي لا تعتمد بدورها على القواعد والمؤسسات والعلاقات فحسب، بل وترتكز أيضاً على إدارة القوة القهرية. وإن الدولة الحديثة الجيدة التنظيم هي في واقع الأمر دولة تحتكر الاستخدام المشروع للقوة، وهذا بدوره يسمح للأسواق المحلية بالعمل. وعلى المستوى الدولي، حيث يصبح النظام أكثر غموضا، فإن المخاوف المتبقية بشأن الاستخدام القسري للقوة، حتى ولو كانت احتمالاته ضعيفة، من شأنها أن تخلف تأثيرات بالغة الأهمية بما في ذلك تأثيرات داعمة للاستقرار''. واختتم مقاله مؤكدا أن القوة العسكرية تعتبر بالنسبة للنظام، كالأكسجين بالنسبة للتنفس.
والبروفيسور جوزيف ناي الابن استاذ في جامعة هارفارد الأمريكية، شارك مع البروفيسور روبرت كيوهان في وضع أسس نظرية الليبرالية الجديدة بالعلاقات الدولية، نشراها عام 1977 في كتابهما ''القوة والاعتماد المتبادل''. وله الريادة في بلورة نظرية ''القوة الناعمة''، وهو عضو مشارك في اللجنة التوجيهية المكلفة بمشروع إعادة إصلاح الأمن الوطني الأمريكي. وقد عمل سابقا بوظائف عديدة بالإدارة الأمريكية منها: نائب لمساعد وزير الخارجية، ورئيس لمجلس الاستخبارات الوطني ومساعد لوزير الدفاع. وقد صنفته دراسة Teaching, Research and International Policy: TRIP لعام 2008، بالمفكر الأكثر تأثيرا على مسار السياسة الخارجية الأمريكية خلال العقدين الماضيين.
إن تبني الولايات المتحدة للإستراتيجيات التي نادى بها مفكرون مثل جوزيف ناي ورفقاؤه، هي التي دفعتها إلى تخصيص نسب متزايدة سنويا من ميزانيتها العامة للإنفاقات العسكرية والأمنية. حيث نمت تلك النفقات بنسبة 9 في المائة سنويا خلال الفترة من 2000 إلى 2009، حتى بلغت ما يقارب (680) مليار دولار في ميزانية عام 2010. ومن الجدير بالتنويه إليه هنا، أن الميزانية العسكرية الأمريكية استحوذت، في عام 2009 على تقريبا 40 في المائة من إجمالي إنفاقات السلاح العالمية، وهي أكبر بستة أضعاف عن ما خصصته الصين من ميزانية لهذا الجانب.
وهذا الإنفاق الضخم المستمر لبناء القوة العسكرية، هو الذي ساهم وبشكل بارز في أن يكون حجم الدين العام الأمريكي الأكبر على مستوى العالم. حيث بلغ أكثر من (14,35) تريليون دولار أمريكي، في يوم الأربعاء الماضي 15 يونيو2011، استنادا إلى مؤشر الدين الوطني الأمريكيU.S. National Debt Clock. ويمثل ذلك ما يقارب 98 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي، علما بأن تلك النسبة كانت في حدود 51 في المائة قبل ما يقارب العقدين من الزمن وتحديدا عام 1988. وللاطلاع على حجم الدين العام الوطني الأمريكي ومستويات نموه على مدار الساعة، ادخل إلى موقع: (www.usdebtclock.org).
ومن الجدير بالتنويه إليه، أن إجمالي الدين العام الأمريكي استمر في الارتفاع بمتوسط أربعة مليارات دولار يوميا تقريبا، منذ سبتمبر 2007. وقد أشارت جريدة ''واشنطن تايمز'' في عددها الصادر 14 فبراير 2011، إلى أن مشروع الميزانية الأمريكية لعام 2011 سوف يتضمن أكبر زيادة يشهدها التاريخ في حجم الدين العام، حيث يقدر أن تصل لما يقارب تريليوني دولار. وبالتالي يقدر أن يبلغ إجمالي حجم الدين العام الأمريكي ما يقارب (15,476) تريليون دولار في 30 سبتمبر القادم، أي ما يمثل نسبة توازي 102,6 في المائة من ناتجها الإجمالي المحلي.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل الاستراتيجيات التي ترى أن القوة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية كالأكسجين بالنسبة للتنفس، فاعلة وتخدم مصالح الشعب الأمريكي؟ والى أين سوف يؤدي كل هذا الدين العام الأمريكي بالاقتصاد العالمي؟
وفي الحقيقة ليس لدي إجابة محددة ومتكاملة في الوقت الراهن، فهناك العديد من السيناريوهات المحتملة، وقد تكون هناك فرصة لطرحها مستقبلا في مقالات قادمة. ولكن قناعتي أنه إذا ما استمر الأمر على ما هو عليه من تضخيم للولايات المتحدة الأمريكية في دينها العام، فسوف تجد نفسها قريبا غير قادرة على امتلاك القوة الاقتصادية الكافية التي تؤهلها للاستمرار كقوة عظمى. فما يحدث هو في الحقيقة نزيف حاد في الاقتصاد الأمريكي، والذي يوشك أن يفلس وينهار. وإذا ما حدث ذلك، فسوف يكون له تبعات سلبية كبيرة مؤلمة على المنظومة الاقتصادية الدولية كلها، أخذا بالاعتبار الترابطات الاقتصادية الوثيقة على الساحة العالمية.
ختاما، إن العبر والدروس التي سطرها التاريخ تؤكد إن الدول والإمبراطوريات والأمم والحضارات استندت في بناء قواها السياسية والعسكرية والحضارية على قوة اقتصادية مؤثرة. وبالتالي لا معنى في نظري للتساؤل الذي طرحه د. ناي ''هل تحل القوة الاقتصادية محل القوة العسكرية؟''. حيث لا بد أن تكون الأولوية دوما لبناء القوة الاقتصادية، فهي التي تقود قاطرة البناء للقوى الأخرى. وهذا ما أكده د. ناي نفسه في مقاله حيث قال ''إن الولايات المتحدة الأمريكية كانت الدولة صاحبة أضخم اقتصاد على مستوى العالم طيلة 70 عاما قبل أن تتحول إلى قوة عسكرية عظمى''.