أنا ومن بعدي الطوفان .. أساس الفساد
إننا كبشر بطبيعتنا نُقدم مصلحتنا الشخصية على مصالح الآخرين، وهذا حق كل فرد، فهو لا يخالف الدين ولا القانون، وعندما تزيد هذه الصفة على الحد المعقول فإنها تسمى الأنانية. ويكون هذا التصرف في أقبح صفاته عندما يكون في تقديم مصلحتنا الشخصية إضرار بمصالح الغير. وفي المقابل هناك من الناس من يجعل مصلحته ومصلحة الآخرين سواء، وهؤلاء هم من قال فيهم - صلى الله عليه وسلم - ''لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه''، ويكون هذا التصرف في أسمى صفاته عندما نُقدم مصالح الآخرين على المصلحة الشخصية، وهذا يسمى التضحية، وامتدح الله تعالى من يفعل ذلك في قوله تعالى: ''وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) ''الحشر.
وما يهمنا في المقدمة أعلاه ليس الفرد، فنحن ليس من حقنا محاسبته أو معاقبته على طبيعته إلا عندما يكون في ذلك انتهاك للقانون، ولأنه حتى إن قَدم مصلحته على مصالح الغير فهو يضر فقط من يتعامل معهم، ولمن يتعامل معه الخيار في ترك التعامل معه. لكن السؤال هو: عندما يكون ذلك الفرد مسؤولاً في الدولة، هل يحق له أن يُقدم مصلحته الشخصية على مصلحة 25 مليون مواطن؟ وهنا نقول بلسان الدين والحكومة والقانون والمواطن، لا، فعندما يقبل المسؤول بمنصبه فيجب أن يعلم أن مصلحة الوطن والمواطن فوق مصلحته الشخصية، خصوصا إذا تعارضت المصالح، وهو بذلك ليس على الخيار. فهو لم يوضع في هذا المنصب إلا لخدمة الدين، المليك، الوطن، والمواطن.
إن عواقب تقديم المسؤول مصلحته الشخصية على المصلحة العامة هي عواقب وخيمة تؤثر في اقتصاد البلد، كما أنها تؤثر في دخل المواطن وفي تعليمه وفي صحته، وفيها تعطيل لمشاريع حيوية للوطن والمواطن. ولتقديم المسؤول مصلحته الشخصية على المصلحة العامة أسماء عدة، من أهمها الفساد الإداري وخيانة الأمانة. وهناك أمثله كثيرة على الفساد الذي يضر شعبا بأكمله، لكن سنذكر بعضا منها:
قبل 40 سنه تقريبا أو أكثر لم يكن يوجد لدى بعض الدول المتقدمة إمكانية للتخلص من المواد والنفايات الكيماوية الخطرة من مبيدات الحشرات الممنوعة دولياً، ولذلك قامت بعض هذه الدول بإرسال هذه السموم إلى دول إفريقية بعد دفع مبالغ مالية للمسؤولين لقبول استيرادها إلى دولهم، والنتيجة اليوم أن بعض المنظمات الدولية اكتشفت أن أمراض السرطان وبعض الأمراض الخطيرة استشرت في هذه الدول، والسبب هو تلك المواد الخطرة. والأدهى والأمرّ أن هذه المنظمات تحاول اليوم أن تقوم بحل المشكلة، لكن بعض المسؤولين في بعض هذه الدول يحاولون الاستيلاء على الأموال المخصصة لحل المشكلة.
أما فيما يخص اقتصاد البلد والمواطن، فهو عندما تباع ثروات الوطن بأسعار تفضيلية لمصلحة حفنة من المسؤولين مقابل خسارة وطن وشعب بأكمله، وكذلك ترسية عقود مشاريع ضخمة بأسعار مبالغ فيها أو ترسية المشاريع على شركات أجنبية رغم وجود الند المحلي، فكل هذه طرق لاستنزاف الاقتصاد المحلي. وهناك طرق عديدة من الفساد وتنطبق على جميع أوجه الحياة، من تعليم وصحة وغيرها، لكن القاسم المشترك بين هذه الأنواع هو ضرر الوطن والمواطن.
ورغم أن تأثير هذا النوع من التصرفات خطير وأثره جسيم إلا أنه توجد حلول لمكافحته والقضاء عليه أو الحد منه، وأهم تلك الحلول: اختيار القوي الأمين كمسؤول، الذي همه الأول خدمة هذا الوطن، وهم - بحمد الله - كثر، الشفافية، الرقابة، وأخيراً المحاسبة، ''فإذا أطعمت فأشبع وإذا ضربت فأوجع''.
وخير مثال على تقديم المسؤول المصلحة العامة على مصلحته الخاصة وما ينتج عنه من نجاح وخير للبلد والمواطن، رئيس ماليزيا السابق مهاتير محمد الذي حكم ماليزيا من عام 1981 إلى عام 2003 ميلادي، الذي نجح في تحويل ماليزيا من دولة زراعية إلى دولة صناعية يسهم قطاع الخدمات والصناعة فيها بنسبة 90 في المائة من الناتج المحلي، كما أنها تنتج 80 في المائة من السيارات التي تسير في شوارعها. وكانت النتيجة الطبيعية من هذا التطور أن انخفضت نسبة السكان الذين تحت خط الفقر من 52 في المائة عام 1981 إلى 5 في المائة عام 2002، وارتفع دخل المواطن الماليزي 700 في المائة في هذه الفترة وانخفضت البطالة إلى 3 في المائة.
والسؤال هنا: هل ستكون النتائج نفسها لو أن مهاتير محمد قَدم مصلحته الشخصية على المصلحة العامة؟
وأخيراً، أحمد الله أن أنعم علينا بقائد يقدم مصلحة وطنه وشعبه على مصلحته الشخصية، ونأمل أن يسير كل مسؤول على نهجه، كما نسأل العلي القدير أن يوفقه لاختيار القوي الأمين من الوزراء والمسؤولين، كما نسأله أن يهدي ويوفق كل مسؤول لخدمة هذا الوطن وشعبه.