شفافية المعلومات وتداولها (1 من 2)
في عصر المعرفة، وتقنية المعلومات، الذي حوّل العالم إلى مجرد قرية صغيرة متشابكة؛ تلاشت فيه حواجز الجغرافيا؛ وبات تفوق الدول مربوطًا بقدرتها علي دمج العملية الإنتاجية بمعارف عملية، تشكّل قيمة مضافة، تفوق في أهميتها رأس المال؛ لأنها بذلك تقلل التكلفة، وتحقق، في الوقت نفسه، الجودة وتزيد الإنتاجية.. في هذا العصر، أصبح وصول المعلومات إلى المستفيد، وسرعة تداولها دون عوائق، ولا حتى منغصّات شرطًا أساسيًا؛ لإنجاز التقدُّم وركنًا مهمًا؛ لتحقيق الشفافية؛ لأن سياسة الإفصاح؛ والإتاحة عن المعلومات تعني ضمان صحة القرار وسلامته وتعني، كذلك تعزيز عوامل الثقة داخل المجتمع وإقامة الحكم الرشيد وتعني، أيضًا، توفير عناصر المراقبة والمساءلة والمحاسبة، وتعني قبل ذلك كله تحقيق ركن أساسي من أركان حرية التعبير التي هي أصل جميع الحريات.
في عام 1949، باتت حرية تداول المعلومات حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، وأصبح السماح للمواطن بالنفاذ إلى أية معلومات رسمية، جزءًا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وجزءًا مهمًا من العهد الدولي الخاص بحقوقه السياسة والمدنية عام 1961، وجزءًا لا يتجزّأ من حرية التعبير وشرطًا لازمًا من الشروط الضرورية التي فرضتها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد عام 2003؛ ولمن وضع هذه النصوص الحقوقية، حكمةُ في هذا الخصوص؛ لأن في غيبة احترام حق الإنسان في المعرفة والمعلومات إضعاف لأجهزةِ الرقابةِ وتغييب لقواعد العمل الصحيح وانهيار لمدونات السلوك في عمل الموظفين الرسميين التي تضمن لهم الدولة نزاهة التصرف وتكافؤ الفرص؛ فضلاً عن إضعاف دور مؤسسات المجتمع المدني بما في ذلك المجالس النيابية، والبلدية والمحلية في الرقابة على الأداء الحكومي.
وتجتهد معظم دول العالم؛ مدفوعة بالأسباب المذكورة آنفًا لإنجاز أنظمة وطنية للمعلومات، من شأنها تنفيذ هذا الحق الإنساني؛ تتيح لمواطنيها النفاذ إلى المعلومات المتاحة داخل الأجهزة الرسمية عدا ما يتعلق منها بأسرار الأفراد، وأسرار التجارة والعلاقات الدولية وملفات الأمن الوطني وكل ما يمكن أن يضر بمصالح أي مواطن أو يعرض حياته للخطر؛ حرصًا، منها علي مصالح المجتمع وتقدمه، وازدهاره.
وقد حرصت معظم هذه الدول قبل إصدار أنظمة جديدة للمعلومات على إصلاح البنية الأساسية لنظم المعلومات القائمة، وأنظمتها من خلال إعادة تفسير مفهوم الأمن الوطني المعلوماتي بما يضمن أن تكون الإتاحة والإفصاح، هما الأصل وأن يكون السرية والمنع، الاستثناء؛ كما حرصت هذه الدول على إعادة النظر في تصنيف معلوماتها بما يقلِّل من نطاق السرية؛ لأنه وسط هذا الحجم الهائل من المعلومات المتداولة على شبكات المعلومات الدولية والمحلية، تم اختزال الأسرار الوطنية في نطاق محدود جدًا وأعيد تصنيف المعلومات بما يجعل الإتاحة حقًا أساسيا، كما ألزمت هذه الدول كل أجهزة المعلومات لديها بنشرها بشكل دوري منتظم وبصورة طوعية كل المعلومات الموجودة لديها عدا ما يتعلق، منها بملفات الأمن والجيش والمخابرات إلا أن يكون الأمر متعلقًا بجرائم فساد أو خرق لحقوق الإنسان!
كما التزمت هذه الدول بتنظيم نشر وثائقها السرية وإتاحة فرص الاطلاع عليها بعد مرور عدد من الأعوام (غالبًا 25 عامًا) كي يتمكن الدارسون من الاستفادة من هذه الوثائق في تدوين تاريخها الصحيح للأحداث؛ وراعت هذه الدول والمجتمعات التي أخذت بمبدأ إتاحة المعلومات، تشكيل أجهزة ولجان عدلية محايدة من مهامها تقصي أسباب الكوارث والهزائم والمحن والتحقيق في وقائعها بشفافية كاملة، وتعلن نتائجها على الملأ في إطار الالتزام بواجب المساءلة حرصًا على معرفة الأسباب الحقيقية وراء هذه المحن والمتسببين الحقيقيين في وقوعها..! وذلك لكي تكون هذه الأنظمة والقوانين فاعلة وحقيقية لا تهدف فقط لمجرد الاستيفاء الشكلي، وحرصًا على استكمال الصورة والتحقُّق بالفعل من التطبيق الأمين لهذا الحق الإنساني.
وفي معظم الدول العربية، لا يجدي نفعًا صدور أنظمة جديدة للمعلومات، جنبًا إلى جنب مع بقاء لوائح العقوبات التي تفرض الجزاءات على الموظفين العموميين لاتصالهم بالصحافة والإعلام، أو لأنهم أتاحوا نشر معلومات تتعلّق بقضايا فساد؛ كما لا يستقيم صدور مثل هذه الأنظمة المعلوماتية، في وجود ترسانة الأنظمة وقوانين العقوبات التي لا تزال تشكِّل قيودًا على حرية التعبير والنشر؛ ومع غياب حق المجالس النيابية وقصور صلاحياتها في محاسبة ومساءلة المسؤولين عن الأجهزة البلدية والمحليات، بينما يعرف الجميع أن الفساد في هذه الأجهزة البلدية والمحلية يفوق التوقعات!
كما لا يصح صدور أنظمة وقوانين جديدة للمعلومات في ظل غياب المستفيدين منها في الدرجة الأولى، وفي طليعتهم الباحثون والصحافيون والإعلاميون، الذين يتعاملون مع المعلومات ويتسابقون للحصول عليها، وفي الوقت نفسه، يُجرَّمون، ويُحاكمون بسببها!! وربما تصدر ضدهم أحكام بالحبس والغرامة بدعوى (إساءة استخدام المعلومات)، ثم يأتي جمهور المستهلكين أضعف حلقات الاقتصاد الوطني؛ لافتقارهم لحماية حقوقهم في مواجهة جشع التجار وسيطرة الاحتكار وشيوع الغش التجاري وغلبة أساليب العبث بقوانين السوق وتعطيل آليات المنافسة التي تشكِّل العنصر الرئيس في توازن الأسواق! فضلاً عن غياب التوازن بين الدور الرقابي والدور التشريعي للمجالس النيابية، وكذا بقاء هذا الإرث الضخم للدولة البيروقراطية والتسلطية، التي يعُدُّ فيها جهاز الخدمة المدنية نفسه سيدًا على المواطنين وليس خادمًا له، ومع غياب وجود أجهزة محايدة تضع معايير التقويم الصحيح لحسن الأداء وصحة البيانات وشفافية العمل التنفيذي.
وتشكّل تلك الضرورات، أركانًا أساسية، يجب أن يلتزم بها القائمون على صياغة هذه الأنظمة والقوانين الجديدة؛ وكذا ضرورة إخضاع ومراجعة أسباب بقاء هذه البيئة المجافية لحق الإتاحة والإفصاح والشفافية؛ ومراجعتها وتقويمها. وما من شيء يكبح كل هذه المفاسد أكثر من إتاحة المعلومات الصحيحة بشفافية كاملة.