رأيت الجنة ورأيت النار (2 من 2)
يتميز الإنسان عن بقية الموجودات الأخرى بالعقل، والعقل هو أداة التفكير والتعلم عند الإنسان، وإن كان هناك دراسات حديثة تشير إلى دور مهم للقلب في صناعة التفكير واسترجاع المعلومات، والعقل هو فضاء واسع من القدرات؛ منها ما هو خارج إرادة الإنسان وهي تلك القدرات التي تشترك مع بقية أعضاء الجسم في إدارة الجانب الفسيولوجي للإنسان، ومنها - وهي الكم الأكبر من هذه القدرات - على شكل إمكانات وقابليات تنتظر من الإنسان نفسه توظيفها والاستفادة منها. وتكمن عظمة العقل أو المخ في هذا الجانب وفي هذا النوع من القدرات، فالقدرة العقلية عند الإنسان وما تتيحه من إمكانات تكشف فعلا عن عظمة الإنسان كمخلوق، ويكفينا شهادة العلماء أنفسهم عن سعة هذه الإمكانات العقلية المتاحة للإنسان، فالإنسان وبالرغم من كل هذا التقدم العلمي الهائل، لم يستثمر إلا القليل جدا، ربما أقل بكثير من 10 في المائة من قدراته العقلية، وهذا هو الذي دعا الأمم المتقدمة إلى مزيد من الاستثمار في الاستكشاف والتنقيب في العقل، لأنها أدركت أن ما ستجنيه وتحصل عليه من كنوز وموارد هي أكثر قيمة بكثير مما هو موجود على الأرض وباطنها. فمنتجات الحضارة الإنسانية التي نشهد ولادتها اليوم تحدد قيمتها بما هو موجود فيها من فكر وليس على ما هو موجود فيها من مادة، ففائض القيمة بات اليوم هو لمصلحة الفكرة والمهارة على حساب الجانب المادي. حتى مفهوم الثروة قد تغير وصارت ثروة الأمم تقاس ويحدد غناها بمقدار ما تتكئ عليه من ثروة فكرية وعقلية. وما يزيد من عظمة العقل أن له صلة بالروح، والصلة بالروح تعني التعرض للنور الإلهي والمدد الرباني، مما يتيح لعقل الإنسان قدرات فوق قدراته الذاتية، والعلماء اليوم يسمون هذه القدرة بقدرة التخيل وينسبون إليها الفضل في حصول الاكتشافات واختراق المسائل والعقبات التي يستعصى على العلماء حلها. فأينشتاين وغيره كثير من العلماء يرون أن العلم قليله اجتهاد وكثيرة تخيل، وصحيح أن اجتهاد العلماء في التفكير وصبرهم على التعلم واكتساب مهارات التفكير هي أمور ضرورية ولا غنى عنها للحصول على المعرفة، ولكن الإصرار على التفكير وترويض النفس على الصبر وتحمل معاناة التعلم والتفكير تعد الإنسان وتؤهله لاكتساب قدرة التخيل، أو ما يمكن أن نسميه بالإيحاء الحاصل من نتيجة الاتصال بين العقل والروح.
ولعل أهم شيء يحصل عليه الإنسان من اكتسابه العلم والمعرفة هو ازدياد قدراته الحسية، فالعالم قد يرى ما لا يراه الناس، وقد يسمع ما لا يسمعه غيره، وهذا هو الذي يعطي العلماء منزلة أعلى وأرفع من بقية الناس، "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"، الآية 11، سورة المجادلة، فهم أدلاء على رؤية وتحسس عظمة الله - سبحانه وتعالى. وعودة إلى موضوع الجنة والنار، فالإنسان بالعلم واكتساب المعرفة قد يستطيع أن يرى صورا في هذا الوجود تقرب له في ذهنه الصورة الحقيقية للجنة والنار. فعندما يحلل العالم الصور التي يحصل عليها عن الشمس وهي نجم متواضع جدا في هذا الكون الفسيح ويجد أن اللهب الواحد المنبعث منها يتجاوز طوله أكثر من 100 ألف ميل، أليس في هذا صورة مصغرة لما تكون عليه نار الآخرة من عظمة، وعندما ينظر العلماء للصور الواصلة إليهم عن أحد توابع المريخ الذي حطت عليه إحدى مركباتهم الفضائية بعد مسيرة سبع سنوات، ليل نهار بسرعة كبيرة جدا، ويجدون أن كل ما في هذا الكوكب هو نار، فجباله هي صخور من نار وأنهاره تحوي سائلا ناريا، لأن ما يجري فيها هو كبريت منصهر بدرجة حرارة تفوق الألف درجة مئوية وحتى الأمطار الساقطة عليها هي نار حارقة، فهل رؤية هذه الصور لا تقرب لنا مفهوم النار وشدتها في أذهاننا. وعندما يتكلم العلماء عن الثقوب السوداء وكيف أن الضوء على خفته وسرعته الهائلة لا يستطيع الانفلات والهروب من جاذبيتها فكيف لا نجد في هذه الصورة العلمية للثقوب السوداء ما يشعرنا بالرهبة ويقرب لنا من صورة النار في أذهاننا. وفي المقابل هناك صور لأجزاء من الكون توحي للإنسان بأن هناك جنانا فيها من الطيبات ما لا يستطيع الإنسان أن يصفه بالكلمات أو أن يرسمه بالصور والألوان.
فالشوق لرؤية صور للجنة والنار نابعة من رغبة فطرية وهو أمر متاح للإنسان، فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولعلو مقامه ومنزلته عند الله - سبحانه وتعالى - أتيح له في معراجه إلى السماء أن يطل على الجنة ونعيمها وأن يرى النار وعذابها، والعلماء - على قدر علومهم - لهم معراجهم الخاص بهم، فهم يستطيعون أن يروا صورا أكثر من غيرهم من الناس لما تعنيه الجنة وما تعنيه النار. وأما الإنسان العادي منا فهو الآخر ليس بمحروم من رؤية بعض هذه الصور التي تقرب له صورة الجنة والنار، فعلى سطح الأرض هناك مناطق كأنها لمن يراها مرايا تعكس ولو بشكل محدود ومصغر حقيقة الجنة والنار. فأنا ومن تجربتي الشخصية ومن خلال سفري إلى مناطق متعددة في العالم، وأنا لست بالإنسان الكثير السفر، وجدت أن هناك مناطق هي في غاية الإبداع والجمال، وأحسست وأنا أنظر إليها وكأني أعيش وأنظر إلى صورة حقيقية من صور الجنة. فمثلث الشلالات الموجود على حدود ثلاث دول أمريكية جنوبية وهي البرازيل والأرجنتين والبراجواي، فهذه المنطقة الجميلة والرائعة جدا أحسستني فعلا بأني أمام صورة من صور الجنة. حتى سكان المنطقة منبهرين أمام هذا الجمال. إنه فعلا مكان جميل ومن الصعب وصف ما أحسست وشعرت به وأنا أحاول أن استوعب جمال ورهبة المكان، فالشلالات تحيط بالمكان من كل جانب، والغابات والأنهار التي تصنعها هذه الشلالات، وصوت ارتطام المياه المنحدرة بشكل قوي وحاد وبكميات مهولة والرذاذ المتطاير الذي يصلنا ونحن على مسافات بعيدة، تحسسك فعلا بأنك في مكان استثنائي. لقد وجدت نفسي وأنا محاط بالمكان، وقد غسلني رذاذ المياه من قمة رأسي إلى أخمص قدمي وأنا أصيح الله أكبر يا لله، ووجدت غيري يردد اسم الله بلغاتهم المختلفة، وآخرين يصرخون فقط وكأن ألسنتهم قد انعقدت من جمال المكان وروعته، وهذه الصرخة في نظري هي الأخرى تكبير وتسبيح وإن كان بلغة لا تفهمها إلا النفس وحدها. ووجدت عندي رغبة أن أصلي في هذا المكان، وكانت فعلا صلاة في الجنة، وعندها تذكرت الحديث المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فالأرض كل الأرض هي فعلا مسجد للمؤمن ومن حقها عليه أن يصلي ويتعبد في كل مكان يوجد فيه وهي كذلك طهور له، فمثل هذا المكان الجميل والرائع أحسست بأنه قد غسلني من كثير من التلوث الضوئي والصوتي والحسي الذي أصبت به في هذه الحياة، فقد غسل بصري بجماله وروعته وغسل سمعي بأصواته الجميلة التي كان المكان يرقص على نغماتها، وغسل خلايا جلدي بمياه الرذاذ الذي كان يغلف المكان، وغسل حتى صلاتي لأني أحسست بأنها فعلا كانت خفيفة ومملوءة بالخشية فطارت بي إلى الجنة، وعندما حان وقت الرحيل أحسست وعلى قدر نفسي البسيطة بشعور أبونا آدم عليه وعلى نبينا السلام وهو يهبط من الجنة، بأمر من الله، إلى أرض الدنيا، ولكن لا أدري غادرت وعندي من بقية شعور أبونا آدم بأن هناك أناسا سيعودون إلى الجنة، ولكن الجنة التي يصنعونها هم بأنفسهم وبأعمالهم الصالحة في هذه الدنيا.
أما عن صورة النار فكانت في زيارة لأحد البراكين الحية في جزيرة من جزر الهاواي، فصور الحمم البركانية وهي تندفع إلى مياه المحيط الهادي فيها، فعلا صورة مقربة ونسبية لما في أذهاننا من صور ومعان لنار الآخرة، فمنظر الماء وهو يهرب من ملامسة هذه الحمم ويتحول إلى عمود من نار وبخار ماء هو فعلا صورة معبرة عن كيف أن النار بمقدورها أن تقهر حتى الماء، ولكن في النهاية يتحول الجميع إلى كتلة من اللهب والضوء فتضاء المنطقة بقبس من نور الله فتشتعل في مقابلها شعلة من الخوف والرهبة من هذا المنظر في نفوسنا، يا لها من صورة مخيفة لنار الأرض، فكيف سيكون المشهد عند الوقوف والحساب أمام نار جنهم. كان هناك أشخاص يمنعون الناس من الاقتراب من منطقة اللهب ويبقوهم على مسافة ليست بالقصيرة، ولم نفهم السبب لمنعهم لنا من الاقتراب، ولكن عندما غربت الشمس عرفنا السبب، فلقد كانت هناك نار تشتعل تحت سطح هذه الأرض المحيطة بمنطقة اللهب، ولعله بين لحظة وأخرى قد تنهار الأرض تحت ضغط هذه النار المشتعلة فتندفع الحمم إلى الأعلى ويا ويل من كان قريبا منها. وبعد أن أظلمت الدنيا قليلا رأينا المنطقة وقد أضيئت بفعل ألستة اللهب الصغيرة المنبعثة من هذه الأرض وكأنها قناديل منتشرة أمامنا على مد البصر، فعلا كانت هذه الأرض التي أردنا أن نعبرها لجهلنا ما هي إلا صفيح ساخن تحته نار تشتعل. كانت فعلا رحلة مثيرة شهدنا ورأينا فيها صورة معبرة فعلا للنار، فسبحان الله الرحمن الرحيم، لم يترك للإنسان حجة، فالنار التي أنذر بها عقابا لمعصيته موجود منها ولو بشكل نسبي على هذه الأرض التي نعيش عليها.
خلاصة القول؛ في زيارتي لكلا المكانين لم الاحظ وجودا لإنسان عربي أو مسلم ليشهد ما أشهده وليرى ما أراه، لا أدري ما السبب، ولكني أعرف أننا ثقافيا لا نهوى السفر إلى مثل هذه الأماكن. فنحن نعتقد أن الأماكن الجميلة هي أماكن لهو ولعب ولا يقصدها إلا طالب المتعة الحرام واللهو غير المباح وغير البريء، هذا الوهم علينا أن نزيله من أذهاننا، فالإنسان المؤمن بالله هو أولى بهذه الأرض، فهي له مسجد للتفكر في عظمة الله، وهي طهور لنفسه ولكل جوارحه، فيا ليتنا نأخذ على الأقل المبدعين من أبنائنا لزيارة هذه الأماكن ونجمعهم ونسافر بهم تحت مظلة جمعية اجتماعية نسميها "رأيت الجنة ورأيت النار".