المشيخة الإلكترونية e-Shaikhing
في العصر الذي نعيشه أصبحت غالبية تعاملاتنا إلكترونية.. ليس التجاري أو الحكومي منها وحسب، بل امتدت تلك التعاملات لتتغلغل في أهم جوانب حياتنا الاجتماعية، ويقول العلماء إن لغة الجسد تمثل ما يربو على 70 في المائة من تواصلنا.. ما يعني أن التواصل الإلكتروني يفي بما يساوي 30 في المائة مما نتداوله هذه الأيام.
هذا على صعيد التعامل في العلاقات الإنسانية، أما على صعيد المعاملات التجارية أو الحكومية، فإن الأمر لا يكاد يعدو برمجة محوسبة للتعامل مع تصرفات متوقعة مسبقاً من قبل المستخدم. فمن يريد أن يجري عملية تجديد لهويته الشخصية على الإنترنت، لا بد أن يقوم بسلسلة من الإجراءات التي تم توقعها مسبقاً حتى تتم العملية. وفي بداية كل معاملة هناك دليل للتعليمات والخطوات التي يجب عليك اتباعها.
ولتوضيح القصور الحاصل في التعامل الإلكتروني من خلال فقدانه للمسة الإنسانية، أسوق مثالا حصل معي وأنا أقوم بحجز لأحد الفنادق البريطانية على الإنترنت. فقد تم تكريمي بزجاجة من المشروبات مجاناً نظراً لحجزي المتكرر في ذلك الفندق. المشكلة تمثلت في أنني كمسلم لا أرغب في أن أكرم بهذا النوع لحرمته.. لكن البرنامج الذي تم تصميمه لم يأخذ في الحسبان أن فئة من المسلمين ستستخدمه. فاضطررت إلى اللمسة الإنسانية واتصلت بالفندق وشرحت لهم الموقف فاستجابوا مشكورين.
لقد أصبحت التعاملات الإلكترونية تشكل جزءا لا يستهان به من أعمال الهيئات الشرعية.. فصارت الاجتماعات تعقد بالتمرير الإلكتروني في كثير من الأحيان، على اعتبار أن هذه الاجتماعات هي اجتماعات "حكمية" قياساً إلى القبض "الحكمي" المتعامل به في بورصات المعادن الوهمية في لندن. كما أصبحت الكثير من القرارات متوقعة مسبقاً، حيث يمكن لأي شخص في الإدارة الشرعية تمرير القرار قياساً إلى أحكام مسبقة بمجرد الاطلاع على صيغة العقد.
بالتأكيد، إن هذه الخدمات قد تؤدي إلى توفير الوقت والجهد، إلا أن الخطأ الواحد فيها قد يكون كبيراً، لأنها وببساطة تفتقر إلى اللمسة الإنسانية التي قد تنبئ بالكثير عن واقع المعاملة.. وفهم الواقع كما تعلمون ضروري لإصدار الحكم. وقد حدث أن اشترى صديق لي وثيقة تأمين سفر من شركة إسلامية، وقدر الله عليه أن يقع في إشكال في أثناء سفره اضطره إلى مطالبة الشركة بالتأمين. الكارثة حصلت عندما اكتشف صديقي أن الوثيقة التي هي من المفترض أن تكون إسلامية كانت مباعة بالنيابة عن شركة تأمين أمريكية كبرى.. أي أن شركة التأمين الإسلامية ما كانت إلا سمساراً للشركة التقليدية!! مع العلم أن الهيئة الشرعية كانت على اطلاع بالتمرير!! على صيغ عقد تأمين السفر الإسلامي!! دون التعمق الحقيقي في فهم حيثيات ذلك العقد، ودون الاجتماع مع الفنيين المختصين بتأمين السفر من تلك الشركة!!
لقد أتاحت التكنولوجيا فرصاً لبعض المشايخ مكنتهم من الجلوس في عضوية عشرات الهيئات الشرعية، لكنها حرمتهم من التقرب من واقع المعاملات فأصبح عملهم مقتصراً على مراجعة عقود على ورق وإبداء الرأي حولها عبر الفاكس أو الإيميل، ومن ثم تمرير تلك الآراء صماء بكماء عمياء خالية من أي لمسة بشرية تبعث فيها الروح.. كما أن التكنولوجيا أعطت الفنيين فرصاً كبيرة من تقليل تدخل الشرعيين في أعمالهم ما فتح لهم المجال للتطوير والابتكار المزعوم بعيداً عن الاعتراضات المحتملة..
المشكلة تكمن في أن بعض المشايخ المتنفذين لا يزالون يصرون على أن دورهم يقتصر فقط على مراجعة العقود وتقديم الاستشارة حولها.. لكنهم في الوقت نفسه يصرون على بقاء الهيئات الشرعية في المؤسسات المالية، ويقاومون تأسيس هيئة شرعية عليا على مستوى الدولة، معللين ذلك بالاحتياجات الفردية للمؤسسات.. وهذا بالضرورة تناقض واضح في رأي أولئك المشايخ. فكيف يقبلون الاجتماعات بالتمرير الإلكتروني على اعتبار أن غالبية العقود نمطية وواضحة الأحكام، ويوافقون على عزلها عن واقعها والتعامل معها إلكترونياً.. ثم يناضلون من أجل عدم تأسيس هيئات شرعية عليا؟!!
وما دام الأمر متعلقاً بالعقود النمطية التي أصبحت تشكل غالبية تعاملات التمويل الإسلامي، والتي لا تحتاج إلى اللمسة الإنسانية من مشايخنا الأفاضل، فلماذا لا تتم برمجتها ضمن ما يعرف بالأسئلة المتكررة Frequently Asked Questions FAQ، ونصل بذلك إلى العصر الكامل من حلول المشيخة الإلكترونية e-Shaikhing Solutions؟!!
كذلك يمكن إعداد تلك البرامج لتوضع على الرد الآلي الهاتفي، فيقول الجهاز للمتصل على سبيل المثال: للسؤال عن معاملة التورق اضغط على الرقم 1، ثم يتم تحويله إلى قائمة أخرى فرعية من خياراتها: للتأكد من أن التورق غير صوري اضغط على الرقم 3.. بالتأكيد هذا لن يكون مجزياً البتة؛ لأن التحقق يتطلب من مشايخنا المعاينة الفعلية الحقيقية التي نتلقاها منهم كعملاء على أساس أنها حقيقة منقولة من ثقات.. فيا ثقاتنا انتبهوا لنا ولاحتياجاتنا بارك الله فيكم.. نحن نحتاج إليكم قلباً وقالباً ليس في مراجعة العقود وحسب، بل في لمستكم الإنسانية لتعزز من اطمئناننا على سلامة ديننا وأموالنا!!