القوى العظمى الجديدة
من الحِكَم الشهيرة أن التحولات الكبرى والتغيرات الحقيقية تحدث دون شعور بها، فهي تزحف وتنمو باعتبارها حقائق طبيعية، ونصحو لنجد أموراً جديدة، ويصدق ذلك بصفة خاصة على نمو الدول وانهيارها.
وفي السنوات الماضية يبدو أن العالم يمر بمرحلة مهمة من التغيير الذي يتمثل في تحول النفوذ من القوى التقليدية وهي الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وروسيا إلى مراكز جديدة للقوة.
وبعد الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) حدث هروب وانتقال وتدفق لرؤوس الأموال من أوروبا وآسيا إلى الولايات المتحدة، فأصبحت القوة الاقتصادية الأعظم، ويبدو أن العالم يمر الآن بتحول مماثل له أبعاده الكثيرة.
فالقوة تهجر الولايات المتحدة تدريجياً وغادرت بريطانيا وفرنسا وروسيا وكل الدول التي تدين بعظمتها لأحداث ما بعد الحرب العالمية الثانية وما حدث من تقسيم للعالم وجني لثمار الانتصار في الحرب، وأين ذهبت القوة؟ لقد ذهبت إلى الصين والهند وإيران وتركيا، وكلها دول ولدت وبدأت مع نهاية الحقبة الاستعمارية.
ومع دخول هذه الدول الأربع مراحل النمو بأبعاده المختلفة الاقتصادية والتقنية والنووية، نلاحظ أنها تشحن نفسها بعزيمة جبارة وإرادة فولاذية للتعبير عن ذاتها وتعظيم أوطانها، وهي عملية افتقدتها الدول الأقوى والأعرق وصاحبة المكانة في قائمة السيطرة. ويرى المحللون أن الطاقة المحركة للقوة لدى الدول الكبرى تذوي وتضعف بحكم قانون الشباب والشيخوخة.
والحقيقة أن هذه الظاهرة طبيعية وتحدث منذ القدم، فكل حضارة عريقة أو دولة قوية أسلمت مشعل القوة والسيطرة لدولة أخرى.
المصريون القدماء والسومريون والبابليون والآشوريون والحيثيون والفينيقيون ثم الأغريق والفرس والرومان حتى جاءت مرحلة الأديان وسادت إيطاليا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبعد الكشوف الجغرافية، بدأت حركة الاستعمار الذي ضخ القوة في عدد من الدول سمح لها بأن تهيمن وتسيطر لفترة ليست بالقصيرة. ولا يتسع المجال لسرد الإمبراطوريات التي قامت والأخرى التي نامت وإنما يجدر بنا أن نتوقف أمام سؤال مهم هو: متى تتوقف الدولة عن القوة؟ وماذا يعني نهاية عظمتها؟
هل يبدأ ذلك عندما تصبح أضعف عسكريا؟ أو عندما يحدث شيء ما بداخلها يجعلها تنكسر من الداخل وبعمق لا يمكن إصلاحه؟ هل هو الإجهاد والتعب؟ هل هو فقد الثقة؟ أم هو نوع من الانسحاب من العالمية إلى الذاتية الوطنية؟
ففي الولايات المتحدة مثلاً تظهر إدارة أوباما أول علامات الانسحاب من موقع الدولة العظمى وهي المكانة التي احتلتها أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بل إن الإدارة الجمهورية التي قد تتبع أوباما قد تتولى الإسراع بعملية الانسحاب وذلك بإيجاد نسخة جديدة ومحسنة من الانعزالية. والأمريكيون لا ينسون المبدأ التاريخي لرئيسهم الخامس جيمس مونرو والذي قال إن أمريكا كيان خاص ومنعزل للأمريكيين ولا يهمهم أو يخصهم التدخل في شؤون دول العالم الأخرى تحت أي ذريعة. ولكن تطور الأحداث والثراء الهائل وظروف الحروب والإنهاك الذي عاناه الأوروبيون جعلهم ينسون مبدأ مونرو - ولكن يبدو أن مسيرة الأحداث تعيدهم في هدوء إلى هذا النموذج عندما ينسحب الأمريكيون من الالتزامات الدولية الكثيرة التي دخلوها بحجة قوية ومقبولة دائماً، وهي إصلاح الاقتصاد، وقد يصل بهم الأمر إلى حد الانسحاب من حلف شمال الأطلنطي وإغلاق قواعدهم العسكرية خارج حدودها، هنا سيرى العالم أن أمريكا ستتقوقع على نفسها، وهنا يمكن للجميع أن يقولوا إن أمريكا قد توقفت عن أن تصبح قوة عظمى.
وليس لدينا الكثير لنقوله عن معاقل القوة الأوروبية التي دخلت إنجازاتها سراديب التاريخ. فدولة مثل بريطانيا من الواضح أنها تتفهم الموقف، وكانت معظم قفزاتها لتثبت وجودها مجرد تحالفات مع أمريكا في مغامراتها البلقانية والعراقية والأفغانية، أما روسيا وفرنسا فما زالتا تشنان حرباً خاسرة لإثبات وجودهما كدول عظمى، فالأولى تقاتل دويلات صغيرة كالشيشان والأنجوش والأوسيتيان، والثانية تحتفظ بإمبراطورية الفرانكفونية الثقافية وبدرجة أقل ''الاقتصادية'' لتذكر العالم بمجدها الإمبراطوري الذي راح أدراج الرياح، أما ألمانيا فما زالت تعاني معنوياً من ماضيها بعدما قضت ستة أعوام تحارب العالم ثم تعرضت للهزيمة والتقسيم وركزت كل همومها على التقدم الاقتصادي الذي حققته ببراعة - ولا شك أن هذه الدول الأوروبية قد ضعف طموحها وربما وصلت لشيخوخة معنوية كفيلة بإزاحتها من عرش الهيمنة. وبعد عقود من السلام والرخاء تبحث القارة الأوروبية عن ممرات للتلاقي مع دول العالم. وتاريخها الطويل المكلل بالانتصارات لا يمكن أن يعوضها عن فقد الإرادة الوطنية وتحول طموح مواطنيها إلى حياة أنعم وأهدأ. ولا ننسى أن أوروبا تواجه العديد من المشاكل على رأسها المشاكل الديموغرافية والاقتصادية وبالتحديد كيفية التعامل مع ملايين المهاجرين إليها من عناصر غير أوروبية، ويواكب ذلك رغبة في أن تظل حياة الأوروبي مليئة بالترف والرخاء دون أن يكون لدى الدول الأوروبية القدرة أو التضحية لإيجاد مناخ يتيح هذه الرفاهية. وما نراه هو انحسار وانحدار تدريجي.
في هذا الفراغ نشأت وترعرعت قوى جديدة، ويمكن أن نقول إنها زحفت تدريجياً، ويدفع بها قدما اقتصاد قوي وأفكار جديدة وسلوكيات رصينة وظهر معها طموح وطني وأحلام بالعظمة وتعطش للقوة مما يعطي لهذه القوى الجديدة الحافز الذي تفتقده الآن القوى العظمى القائمة.
وإذا أخذنا إيران على سبيل المثال فهي دولة صاعدة في الشرق الأوسط تسخر من العقوبات المتوالية التي تتولاها أمريكا وحلفاؤها وتتندر على حالات الإدانة والعدائية، وهي تسعى الآن لتأسيس الإمبراطورية الفارسية الثالثة لتعيد أمجاد قورش وكسرى ودارا، ولكن في ثياب إسلامية.
أما تركيا التي يتزعمها رجب طيب أردوغان فهي تتطلع إلى تحقيق إمبراطورية عثمانية كتلك التي سادت لمدة سبعة قرون، وقد نقول إن أتاتورك شيد إمبراطورية بعد العثمانيين ويريد أردوغان إثبات أن هذه الدولة ذات الموقع المتميز بين آسيا وأوروبا تستحق أن تكون بين قادة العالم.
وأهم ما يجمع بين هذه الدول الأربع المرشحة للصعود (الصين، الهند، إيران، وتركيا)، أنها تحررت جميعاً من أيديولوجيات الحرب الباردة التي أسرت وسجنت العديد من الدول في فكرة الدول الأقطاب التي لا يمكن تحديها، وهذه الدول الأربع أيضاً لديها أحلام ولدت من رحم تراثها التاريخي وهي أحلام تبحث عن التحقيق بأساليب حديثة مثل التقنية المتطورة والقوة النووية. وهذا في رأي المحللين والمراقبين يمثل نوعا من الوطنية الجديدة وتقسيم للعالم يذكرنا بتقسيم أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى.
وبيت القصيد الآن هو أن كافة المعاهدات التي تم توقيعها لمحاربة الحرب الباردة قد انتهت وأن أية تحالفات جديدة ستبرز انطلاقا من المصالح بعيدا عن أية مفاهيم أيديولوجية، فالصين على سبيل المثال تعد العدة لتوسيع نطاق تعاملها التجاري مع إيران رغم الهوة الأيديولوجية بين البلدين.
إن اللعبة الدولية الجديدة ستصبح توازناً للقوى بين معسكرات تتكون من دول لها أنظمة حكم مختلفة وأهداف متباينة.
هذه هي الحقائق الجديدة التي ينبغي التعامل معها بعيداً عن مسلمات الماضي.