العمل والبيئة الصحية
العمل أيا كان نوعه وموقعه لا يحمل معه الراحة الدائمة أو الصراع الدائم، إنما محطات من الصراع والتحدي والإنجاز والإخفاق، والاعتقاد بأن أي عمل يخلو من الكَبَد اعتقاد خاطئ، والصراع في العمل هو المنضج لأي فكر أو عمل، لأنه بغياب الاختلاف وتعدد المصالح واختلافها يخفق العقل عن الفكر ويتحول العمل إلى شيء من الروتين، وربما الروتين القاتل.
الصراع الفكري داخل مؤسسة العمل صراع محمود، والجدل البناء جدل مقدر لأنه يقود نحو الإبداع، والإبداع لا يأتي إلا مع التحدي الفكري المستمد من النقاش العقلاني الموضوعي، ولهذا فإن أي اختلاف في الفكر المبني على الرؤية السليمة اختلاف محمود يحسمه في النهاية رأي الأغلبية، وهو المنهي في الغالب لأي اختلاف، لكن عندما يصبح العمل عبارة عن إيذاء إجرائي وجهل عملي وصراع عقيم فإن فرصة الإبداع والإنجاز، حتى الرغبة في العمل تضعف، لأنه لا يقتل العقل ويضعفه مثل الصراع مع الأقزام، والفكر القزم لأنه فكر لا يبحث عن التطوير والإبداع بقدر ما يبحث عن الهيمنة والتسلط والإيذاء، فكر يجعل من صاحبه مثل المستنقع القذر ذي الرائحة النتنة التي تجعل من المرور حوله فقط إيذاء للذات والروح والعطاء، أما الإقامة حوله فهي الموت الحقيقي للروح الذكية الزكية.
الجسم البشري خير مثال يمكن النظر إليه أو استخدامه لمثل هذه الحالات من العلاقات العملية، فجميع أعضاء الجسم تعمل بتناغم متميز حتى إذا وجد خلل داخلها من خلال إصابة أحد الأعضاء، فنرى اتحادها وعملها المشترك لإصلاحه، يقول المصطفى - عليه الصلاة والسلام ''مثل المؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى''.
لكن عندما يصبح ذلك العضو أو الجزء في الجسد عبئا على الأعضاء الأخرى، هنا يضطر سيد الجسد إلى أن يغير ذلك العضو حتى لو كان القلب، أو يقطعه حتى لو كانت اليد حتى لا يتسبب ذلك العضو أو الجزء في فساد الجسد أو موته.
لقد تأملت هذه العلاقة القوية في تلاحمها والقوية في قرارها بين الجسد والروح وقدرة كل واحد منهما على اتخاذ القرار السليم لحماية بقية أعضاء الفريق الجسدي، وعدم السماح لأي عضو أو جزء فاسد بإفساد أو الإساءة لبقية الأعضاء والأجزاء، ثم نظرة إلى كيفية انطباق هذه العلاقة الجسدية الروحية على علاقاتنا البشرية في العمل والحياة، وإلى أي مدى يمكن لنا التعايش مع مثل هذه الأعضاء أو الأجزاء الفاسدة في مجتمعنا، وطرحت السؤال الأهم وهو: هل يمكن أن نسمح لها بالبقاء ضمن دائرة مسؤولياتنا ونتحمل منها الإساءة ثم التدمير، أم أن ننأى عنها بالإبعاد أو الابتعاد؟
لقد طرحت هذا السؤال المهم على عدد من العاملين في مختلف القطاعات، ووجدت أن أغلبية من لا تربطهم مصالح شخصية وابتزاز مصلحي لمواقعهم العملية، يرون أن الابتعاد هو الحل الأفضل، لأن الصبر على مثل هذه الأمراض المجتمعية يفقد القدرة على الإبداع والعطاء والعمل والإنجاز، لأنها تضطر صاحب هذه القدرات على توجيه جزء من وقته وفي مراحل متقدمة أغلبية وقته للصراع معها، مع العلم أن الصراع معها صراع فاسد مفقد للقدرة على الإصلاح أو التطوير، حتى أن واحدا ممن تمت مناقشته في هذا الشأن أطلق على هؤلاء المزعجين وصف ''دمل ...''، وقصد بذلك أنه دمل صغير يأتي في موقع حساس من الجسد يجعل حياتك جحيما فلا تستطيع أن تجلس ولا تستطيع أن تتحرك أو أن تنام ثم لا تستطيع أن تشتكي منه لحقارة حجمه وموقعه من الجسد، لكنه مع ذلك يصبح مؤذيا للروح والجسد والعقل، ولا تجد بدا من أن ترفع الحظر عن المنطقة الحساسة وتسمح ليد الطبيب أن تتدخل للقضاء عليه وإراحتك منه، ومع أن القضاء عليه يترك بعض الألم وعدم الارتياح، لكنه يطمئن الروح والجسد على عودة العمل السليم ضمن المنظومة الجسدية السليمة.
لقد استوقفني هذا المثال البسيط المباشر كثيراً وتساءلت لو التفت كل واحد منا نحو محيطه العملي والعائلي كم سيجد من دمل يضايقه دون القدرة على إبعاده ولا يجد بعد ذلك من بد إلا الابتعاد عنه وتركه، لأن الإنسان السوي لا يستطيع أن يعيش أو يعمل في بيئة غير صحيحة.
وقفة تأمل :
''الشعبية هي أن يجيك الناس عندما تغادر المنصب كما حبوك وأنت فيه''.