إيران والانسحاب الأمريكي من العراق
كان من المفترض أن نواصل في هذا الحديث سلسلة أحاديثنا التي بدأنا بها قبل أسبوعين عن عودة أوروبا مجددًا إلى المنطقة العربية، تحت شعارات الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان، ومناصرة ما صار متعارفًا عليه بالربيع العربي. إلا أن تسارع الأحداث في أرض السواد، وارتفاع وتيرة العنف مجددًا في هذا البلد الجريح، والجدل المحتدم بين القوى السياسية العراقية، التي انضوت مبكرًا في العملية السياسية حول موضوع الانسحاب الأمريكي من العراق، وانعكاسات ذلك على المنطقة بأسرها جعلنا نرجئ ما وعدنا به، لنناقش مدى جدية مواقف مختلف الأطراف ذات العلاقة بالشأن العراقي من موضوع الانسحاب.
وابتداء نشير إلى أن انسحاب القوات الأمريكية من العراق، كان من المواضيع الأثيرة لدى الرئيس، باراك أوباما، في أثناء حملته الانتخابية للوصول إلى البيت الأبيض. وقد تضمن برنامجه الانتخابي وعدًا بسحب قوات بلاده من العراق، وتركه لأهله ليقرروا مستقبل بلادهم بالطريقة التي يرونها. وفي حفل تنصيبه، أعاد أوباما مجددًا تكرار ما وعد بتنفيذه في أثناء حملته الانتخابية. وأوضح أن احتلال الأمريكيين للعراق كان اختيارًا خاطئًا، أما أفغانستان فإن بلاده قررت دخول الحرب فيها مكرهة، لمواجهة إرهاب القاعدة. وفي وقت لاحق من عامه الأول في كرسي الرئاسة، حدد الرئيس الأمريكي، نهاية هذا العام موعدًا لانسحاب جميع القوات الأمريكية من العراق.
في هذه الأيام، يحتدم جدل داخل الحكومة العراقية، وبين القوى الإقليمية والجهات التي شاركت مبكرًا في العملية السياسية في العراق، التي رعاها المندوب السامي الأمريكي، بول برايمرز، حول الانسحاب الأمريكي من أرض السواد. وتطالب بعض القوى والأحزاب السياسية المشاركة في الحكم، بتمديد فترة وجود الجيش الأمريكي، تحت ذريعة أن مؤسستي الجيش والأمن ليستا في كامل جاهزيتهما للدفاع عن البلاد وتأمين استقرارها.
مناقشة مواقف القوى السياسية العراقية المختلفة من موضوع الانسحاب الأمريكي من العراق، لن تكون دقيقة ما لم يتم التعرف على القوى الفاعلة في الصراع. ومصلحة كل منها في بقاء أو رحيل الجيش الأمريكي من العراق. والواقع أن القراءة الأولية لخريطة القوى السياسية الفاعلة على الساحة، منذ احتلال بغداد حتى يومنا هذا، تؤكد أن النظام الإيراني، هو صانع معظم هذه القوى وموجه حركتها، قبل وفي أثناء وبعد الاحتلال. ولذلك فإن قراءة مواقف هذه القوى على أهميتها لن تكون دقيقة ومكتملة ما لم يجرِ التعرف على حقيقة الموقف الإيراني من انسحاب الأمريكيين من أرض السواد.
إن التركيز على الموقف الإيراني، يأتي لأسباب عملية وموضوعية. فليس من شك أن احتلال العراق، وإن كان قد تم بقوات أمريكية شاركتها قوات بريطانية، وقوات رمزية حليفة، فإن إيران هي التي شاطرت الأمريكيين، منذ البداية، المسؤولية في إدارة احتلال العراق، وتأمين الاحتياجات البشرية للعملية السياسية التي دشنها المحتل. فقد دفعت الجمهورية الإسلامية بأتباعها للمشاركة في الحكومات الانتقالية التي شكلها بول برايمرز. وأيضًا من خلال الدور الذي لعبته ميليشيات المجلس الإسلامي الأعلى، وحزب الدعوة في تدمير الدولة الوطنية العراقية، وقد شكلت هذه الميليشيات العمود الفقري للجيش والأمن اللذين أسسا بعد الاحتلال، استنادًا على المحاصصات الطائفية.
قراءة الموقف الإيراني على هذا الأساس، لن تكون مجرد استشراف لموقف قوة إقليمية مجاورة من التطورات والأحداث التي تجري في العراق، بل إنه أكبر من ذلك بكثير. فعلاقات إيران بالقوى الطائفية داخل العراق، وتشابك المصالح بين إيران والأمريكان، والمغانم التي حققها الإيرانيون في أرض السواد، على مختلف الصعد منذ عام 2003، ترجح أهمية موقفهم، لاستشراف مستقبل عراق، ما بعد نهاية الاحتلال.
كما أن قراءة الموقف الإيراني من موضوع الانسحاب، ستساعدنا على التنبؤ بمواقف مختلف الأطراف السياسية العراقية، المنهمكة بالصراع بما في ذلك المرجعية الدينية، وحزب الدعوة والتيار الصدري والمجلس الإسلامي الأعلى، وشخصيات أخرى ارتبطت بالاحتلال، كالجلبي والجعفري وعلاوي. وهي قوى تمثل غالبية أعضاء البرلمان العراقي، وترتبط بشكل أو بآخر بعلاقات استراتيجية مع نظام الجمهورية الإسلامية.
وهنا ينبغي التمييز بين الشعارات التي يطبل لها الإعلام الإيراني، الداعية بالموت لأمريكا، وبين موقف إيران الحقيقي الذي اتسم بالتنسيق التام مع الأمريكيين، منذ انتصار الثورة الإسلامية في نهاية السبعينيات. وكانت علاقة التنسيق هذه قد بدأت، في أثناء وجود الإمام الخميني بالمنفى في فرنسا، وتفعلت أكثر فأكثر منذ الأيام الأولى للثورة بعد احتجاز أعضاء السفارة الأمريكية في العاصمة طهران، من قبل الحرس الثوري الإيراني. حينها كان التنافس مريرًا بين الرئيس الأمريكي الديموقراطي، جيمي كارتر، ومرشح الجمهوريين، رونالد ريجان الذي فاز بالرئاسة لدورتين متتاليتين. وقد كشفت الوثائق الأمريكية لاحقًا عن اتفاق سري بين المرشح الجمهوري ريجان، وحكومة الثورة الإسلامية، لتأجيل إطلاق سراح الأسرى الأمريكيين، ريثما تنتهي الانتخابات بفوزه. وتم الاتفاق بوساطة الحكومة الجزائرية.
وفي أثناء الحرب العراقية ـــ الإيرانية، منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، جرت فضيحة "إيران جيت"، حيث جرى الكشف عن أكثر صور التنسيق كاريكاتورية بين إيران وإسرائيل والأمريكان. وقد أفصحت التحقيقات التي جرت حول هذه الفضيحة آنذاك، أن إيران تسلمت أسلحة أمريكية بوساطة إسرائيلية، وأن قيمة الصفقة قدرت بخمسة مليارات من الدولارات. ولم يعد سرًا على أحد التعاون المتبادل بين إيران وإدارة الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش في أفغانستان، والدعم الإيراني للميليشيات الأفغانية التي انطلقت من غرب أفغانستان في مزار شريف.
إن تقديم مقاربة بين ما يحققه الإيرانيون من مكاسب وخسائر في حال استمرار بقاء الأمريكيين في العراق أو رحيلهم، وتبعة الانسحاب على أوضاع إيران المحلية والإقليمية والدولية، هو الذي يمكننا من تحقيق استشراف دقيق لموقفهم. فجدول الأرباح والخسائر الإيراني في حالة استمرار الوجود الأمريكي أو الرحيل، هو البوصلة الدقيقة لمعرفة حقيقة الموقف الإيراني من مشروع الانسحاب.
لقد حقق الإيرانيون كثيرًا من المكاسب باحتلال الأمريكيين لأرض السواد. فقد تخلصوا من نظام صدام حسين، الخصم التاريخي العنيد، الذي خاضوا ضده حربًا ضروسًا، استمرت لثماني سنوات، بلغت خسائرهم فيها، أكثر من مليون شخص بين قتيل وجريح. عدا الخسائر في السلاح والمال، والانهيار الاقتصادي جراء تعطل إنتاج النفط الإيراني وعمليات تسويقه. لقد نتج عن الاحتلال الأمريكي إضعاف قوة العراق العسكرية والسياسية، وترجيح الكفة العسكرية الإيرانية في مواجهته في المدى المنظور على الأقل لعدة عقود.
لقد ضمن الإيرانيون باحتلال الأمريكيين، تحقيق احتلال "إيراني" مجاني غير مباشر للعراق، دون تقديم أي كلف. فهم يسيطرون الآن على جميع مرافق الدولة العراقية، ويرسمون سياساتها. وتؤكد تقارير سياسية موثوقة وجود مقرات أمنية واستخباراتية إيرانية في مناطق الجنوب العراقي. وهناك تقارير متداولة عن سطو إيراني على نفط البصرة، واستيلاء بالكامل على بعض حقول الإنتاج في المناطق القريبة من الحدود، العراقية ـــ الإيرانية بدعوى تبعيتها.
وقد كان من النتائج الإيجابية لاحتلال العراق، بالنسبة للإيرانيين، تأجيل المواجهة الغربية معهم حول الملف النووي. فتعقيدات الاحتلال الأمريكي للعراق، واندلاع المقاومة الوطنية العراقية المسلحة، وتشابك العلاقة بين مصالح إيران والإدارة الأمريكية، أصبحت عوامل رئيسة تحول دون تحقيق المواجهة العسكرية الغربية مع إيران، لتدمير منشآتها النووية. إن الانسحاب من العراق، يعني تحرر الأمريكيين من قوة ضغط الملف العراقي عليهم، بما يمكنهم من التفرغ لمواجهة إيران.
وهناك أمر آخر لا يقل أهمية عما سبق، فقد واجه الوطنيون العراقيون قوات الاحتلال الأمريكي بمقاومة ضارية، منذ اليوم التالي لسقوط بغداد، واستمرت مقاومتهم في خط تصاعدي حتى توقفت مع ما عرف باتفاق الرئيس جورج بوش مع قيادة الصحوات، الذي ضَمِنَ تخلي الأخيرة عن مقاومة الاحتلال الأمريكي منذ منتصف 2006. واستمرت المقاومة لاحقًا بوتائر أقل مما كانت عليه في الماضي. وطيلة فترة الاحتلال الأمريكي لم يتعرض الإيرانيون لضربات المقاومة العراقية، في الوقت الذي تمتعوا فيه بجني ثمار الاحتلال. بمعنى آخر، كان الأمريكيون وحلفاؤهم، يدفعون المغارم، بينما تذهب المغانم للإيرانيين.
خروج القوات الأمريكية من أرض السواد، سيجعل الإيرانيين وعملاءهم في مواجهة محتومة مع المقاومة والشعب العراقي. فالإيرانيون لن يتركوا لشعب العراق الحرية في الإمساك بزمام مقاديره، ويضحوا بما غنموه من حضور سياسي وأمني واقتصادي وعسكري، بعد مغادرة الأمريكيين لبلاد ما بين النهرين. وسيجد المقاومون العراقيون أنفسهم في حرب لا مفر منها لكبح جماح التدخل الإيراني في شؤون بلادهم. هذا إضافة إلى ما هو متوقع من مواجهة بين أمريكا وحلفائها في الغرب لحسم ملف إيران النووي. وبالنسبة للأمريكيين، فرغم وعود الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالانسحاب من العراق هذا العام، لكن من الصعب تصور حدوث ذلك، خاصة مع استعار الأزمة الاقتصادية مجددًا، وتصاعد الحاجة لنفط العراق. إن القراءة التاريخية للوجود العسكري في الهند الصينية وكوريا والفلبين وأوروبا الغربية، تؤكد أن الأمريكيين منذ دخولهم على المسرح الدولي بقوة بعد الحرب الكونية الثانية، لم ينسحبوا باختيارهم من أي بلد تمكنوا من دخوله، وكانوا يرغمون دائمًا بقوة السلاح على الرحيل.
جدية الرئيس الأمريكي، باراك أوباما في تنفيذ وعوده بالانسحاب من العراق، من عدمها ستكون موضوعًا للمناقشة والتحليل في حديث قادم.