مردوخ.. وبداية نهاية الإعلام الهابط!
لماذا كل هذا الهجوم الشديد على روبرت مردوخ في الإعلام الأمريكي والأوروبي؟
إذا كان بهذا السوء من الأفعال والأقوال، وبهذه الخطورة على الإعلام والسياسة.. لماذا السكوت عنه كل هذه السنين التي أمضاها يخرب السياسيين ويرشو رجال الأمن والمخبرين ويدمر وسائل الإعلام الجاد ويطرد الصحافيين المحترفين المحترمين بدءا بأستراليا وانتهاء بأمريكا؟ هل كان من القوة المالية والسياسية بحيث لم يجرؤ أحد على الكلام حتى دبت الفضيحة وانكشفت أول حلقات مسلسل الفساد الطويل الذي رافق مردوخ في رحلته؟
أزمة مردوخ مع الإعلام الآن تكشف عن شيء جديد في مسيرة تراجع الحضارة الغربية: أنه الانحدار الأخلاقي، وهو الأهم والأخطر وقد تبدى هذا الانحدار في الأزمة المالية التي برزت مؤشراتها قبل سنوات وتبدو الآن خطيرة وعصية على الحل الفني التقليدي لأنها ثمرة خلل وفساد أخلاقي في الأداء والممارسة في القطاع المصرفي الغربي، فما يتكشف عن الأزمة، كيف بدأت، وكيف تطورت إلى هذا الحد، كل ما انكشف بالأدلة والبراهين الحسية أكد أن المشكلة تعود للفساد والطمع والجشع والاستهتار والخداع التي مارسها قادة القطاع المصرفي والعاملون فيه والمنظرون له في الجامعات والإعلام، والأجهزة الحكومية الرقابية، بالذات في أمريكا فقد كان أداؤهم وفسادهم هو الذي قاد إلى الأزمة المالية الحالية.
الآن فضيحة روبرت مردوخ تقدم نسخة من الحالة التي شهدها القطاع المصرفي مع تكشف فضيحة بنك (ليمان براذرز) فقد كانت البداية لانكشاف الفساد.
الآن إمبراطورية مردوخ تقدم الصورة نفسها في القطاع الإعلامي، فقد كشفت الأزمة ما كان يحذر منه الدارسون والباحثون منذ أكثر من عشرين عاما وهو خطورة تركز الملكية في وسائل الإعلام وما ينتج عنها من تزاوج بين (الإعلام مع المال والسياسة)، فتنامي ظاهرة الاحتكارات الإعلامية وبروز مجموعات الإعلام الضخمة أديا إلى احتكار (5) مجموعات إعلامية أكثر من (80 في المائة) من الإعلام وجميع مصادر تدفق المعلومات في أمريكا، وفي بريطانيا كان روبرت مردوخ وحده قريبا من احتكار ما يقارب (90 في المائة) من وسائل الإعلام، بالذات التلفزيون، لو تمت صفقة التملك لـ Bskyb، ومدير عام الـ BBC قبل خمسة أشهر هو أول من تحدث بقوة وجرأة عن خطورة إتمام الصفقة على الإعلام والسياسة في بريطانيا، وخوفا من مردوخ نشرت تحذيراته باقتضاب وحتى مجلة ''الإيكونوميست'' نشرت عن تحذيراته قصة مختصرة لا تتجاوز 300 كلمة!
الخلل الأخلاقي الذي كشفته فضيحة مردوخ يتجلى في نمو ظاهرة الصحافة الشعبية الهابطة، فقد كشفت الفضيحة للناس مدى التدهور الأخلاقي في ممارسة الصحافة الصفراء، ومردوخ هو الذي قاد الصحافة إلى هذا المستوى الهابط الذي يقوم على الابتزاز والتجسس المحترف والممول، وهذه الممارسات هي التي أحدثت الصدمة عن ممارسات صحافة مردوخ، وأغلب الذين يتناولون فضيحة مردوخ يؤذيهم هذا المستوى المتدني للعمل الصحافي، فلم يتوقعوا أن تلجأ الصحافة إلى هذا الأسلوب المدمر للأشخاص عبر انتهاك الأنظمة والقوانين واختراق الخصوصيات ودفع الرشا لرجال الأمن واستخدام الجواسيس.. لقد صدمتهم صحافة روبرت مردوخ!!
لقد كان مردوخ رائدا ونجما في صناعة الصحافة الشعبية، ونجح في تبني هذه الصناعة على مستوى التلفزيون وجميع وسائط الإعلام التقليدي وكان يخطط لتطوير المحتوى الرقمي الشعبي أيضا. ونجاح مردوخ لا يعود لذكائه وفطنته، بل يعود للبيئة الاجتماعية والسياسية الحاضنة لنمو صناعة الصحافة الهابطة، فقد اتضح أن كثيرين استفادوا منها وروجوا لها من كبار السياسيين والمسؤولين الحكوميين والمستثمرين.. هكذا تسير الأمور جراء التدهور الأخلاقي، ولكن دائما حبل الكذب والخداع قصير!!