ثمن المعونة الأمريكية لمصر

في واحدة من المناسبات النادرة التي تتناول المعونة الأمريكية لمصر، قرأت أن المفاوضات الجارية بين القاهرة وواشنطن حول كيفية تفعيل المساعدات التي أقرها الرئيس أوباما لمصر بقيمة ملياري دولار، شهدت خلافات في وجهات النظر، بسبب إصرار الجانب الأمريكي على استمرار دعم منظمات المجتمع المدني مباشرة دون الرجوع للحكومة المصرية، ويصر الأمريكيون على أن هذه الأموال دعم لمصر في حين أنها دعم للنفوذ الأمريكي ودعم للسطوة الأمريكية، والإصرار الأمريكي على أن تكون مصر مسلوبة الإرادة فيما يتعلق بقراراتها الاستراتيجية، وللإنصاف والحق لم تحظ المعونة الأمريكية بتغطية إعلامية تتعادل مع خطورتها منذ تقررت في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، وكان من الواضح أنها ملف سري تديره واشنطن، عملا بمبدأ كيف يمكن أن يكون هناك قرار أو رأي لمن يقف عند نهاية خط التلقي أو التسول.
وإذا قمنا بتحليل قصة المعونة الأمريكية سنجدها سببا أساسيا لتراجع الرأي المصري واقتصار الدور المصري على الطاعة العمياء، ولذلك خرجت مصر تماما من الدخول في المسألة السودانية التي انتهت إلى ما نشهده الآن من وجود دولتين، كذلك خرجت تماما من المسألة الفلسطينية إلا بقدر ما تريد أمريكا من مصر وكانت دائما تطلب إليها الضغط على الطرف الفلسطيني، حتى أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قال للرئيس المصري السابق حسني مبارك "أنا لا أستطيع أن أنفذ طلبا واحدا مما تطلبه مني لأني سأغتال فورا"، وكانت النتيجة تلقي الرئيس السابق مبارك دشا باردا من الرئيس الأمريكي لعجزه عن لعب الدور المرسوم له.
والمعونة الأمريكية لعبت الدور الذي لعبته معاهدة لندن عام 1840 التي ألزمت محمد علي أن يحدد عدد جيشه وأن يترك بلاد الشام والمورة وكل المستعمرات حتى يقتصر حكمه على مصر ثم يخلفه أكبر أفراد الأسرة سنا.. ولذلك تبع عصر محمد علي عصر عباس الأول ومحمد سعيد وكانا في حالة من التراجع والرعب.
والمعونة الأمريكية كانت سيفا مسلطا على مصر إذا ما قرأنا تفاصيل البروتوكولات الملحقة بها. فهي تصر على تخصيص 300 مليون دولار سنويا لتحديد النسل، وهو مطلب ديموغرافي إسرائيلي التي ترعبها قلة سكانها مقارنة بجيرانها، وكان الخبراء الذين يصلون إلى مصر من الأمريكيين يحصلون على رواتب مرتفعة ومعهم الخدم والطباخون على ميزانية المعونة، ويرغم الإعلام المصري على تكثيف حملاته ضد زيادة السكان، مع أن زيادة السكان هي التي مكنت مصر من إرسال عشرة ملايين إلى الدول الشقيقة والصديقة للعمل دون أن يهتز دولاب العمل في مصر.
وكلنا يتابع ما يجرى حاليا في مصر، وعندما طالب الجانب المصري بكشف تفاصيل الـ 42 مليون دولار التي قدمتها واشنطن لمنظمات مصرية رفض الأمريكيون باستعلاء واستغراب. وسر الاستغراب أن الولايات المتحدة أعدت لمصر خطة ثقافية واجتماعية جديدة، قوامها هيمنة المرأة وتقويض الرجل، وقد لعبت جيهان السادات وسوزان مبارك دورا مهما تحت قناع دعم مطالب المرأة، ولكنه كان تمكينا شهدته وزارة الخارجية بتعيين 50 سفيرة إلى جانب مناصب القضاء وقوانين الخلع والأحوال المدنية وتمليك الشقق للنساء تحت مظلة واهية من القانون وبدعم أمريكي واضح. وشغل رجال مصر بضغوط النساء داخليا عامل مهم في إضعاف ولائهم واحتباسهم في دائرة العجز المطلوبة إسرائيليا. ويقول أحد مراقبي التفاوض بين مصر والولايات المتحدة إن الأخيرة تحرص على فرض الأمر الواقع بحجة أن أموالهم هي أموال دافع الضرائب الأمريكي الذي يسأل عن العائد من ورائها، ولا بد للجانب الأمريكي أن يضخم العائد بما يفوق الفائدة التي تحصل عليها مصر، ويضعون بذلك المفاوض المصري أمام جدار الرفض الصلد لأنه لا يستطيع أن يحدد سياسة الولايات المتحدة.
وتساءل بعض محبي مصر: لماذا لا تقوم الولايات المتحدة بمساعدة مصر مساعدات حقيقية على مبدأ علمني الصيد ولا تعطيني سمكة، فالبقرة الأمريكية تنتج 40 كيلوجراما من اللبن والمصرية لا تتجاوز ثلاثة كيلو جرامات، فلماذا لا تعطي أمريكا هذه الخبرة لمصر الفقيرة، وعود الذرة الأمريكي يحمل ستة عرانيس، بينما لا يحمل العود المصر أكثر من اثنين، وهكذا الحال في مختلف مفارق الطعام، ولكنها معونة مشروطة ولها بدايات ونهايات وأهداف محددة أهمها تحجيم مصر وتحويلها إلى دولة شحاذة تستمتع بالتسول بدلا من العمل. وهناك اتجاه لرفض هذه المعونة، وقد يكون ذلك نعمة في زي نقمة. فألمانيا المستفيدة الأولى من مشروع مارشال رفضت أن يكون صعودها مرهونا
بالعطاء الأمريكي رغم أن أمريكا في حربها الباردة مع الاتحاد السوفياتي كانت في غاية الكرم مع الألمان، لكن سواعد الألمان هي التي أقامت الصرح الاقتصادي العملاق.
أما قصة ماليزيا وكوريا واليابان مع المعونات الأمريكية فتستحق وقفة ودراسة فهذه الدول تلقت المعونة الأمريكية، ولكنها كانت تدرك أن المعونة التي لا يصاحبها عمل جديد وجاد وخطط وطنية تنبع من صالح الوطن هي أشبه بالقيد الحديدي الذي يبقي الشعوب في الضائقة، وهذا ما حدث لتايلاند رغم تحررها في السنوات الأخيرة. أما ماليزيا فقد وجهت جهدها للتعليم والبحث العلمي والابتكار فحققت نهضة نقلتها تحت أعين الأمريكيين الحانقة إلى دولة قوية، وبدأ الدور الأمريكي الآخر ضد مهاتير محمد. أما كوريا فقد اكتشفت دربا لم يخطر على بال الأمريكيين وهو ما فعلته إيطاليا في أوروبا من خلال تبني الصناعات الصغيرة، وظلت تطورها حتى وصل متوسط دخل الفرد إلى 20 ألف دولار ثم زاد وزاد، فقد كان الكوريون تاريخيا أتباعا لليابان واستفادوا من هذه التبعية بالتوسع في الصناعات التي تركتها اليابان لأنها انتقلت إلى آفاق أعلى من التقنية، وتدريجيا أصبحت كوريا تنتج كل شيء عشرة أنواع من السيارات "وتفوق إلكتروني ملحوظ حيث أصبحت كوريا الجنوبية من الدول الغنية، ويروج الإعلام الأمريكي أن أمريكا بسطت يد الكرم لكوريا نكاية في شقيقتها الشيوعية الشمالية، ولكن المراقبين الاقتصاديين يرون في الصعود الكوري ملحمة شعب أراد العمل وحقق ما أراد.
أما اليابان ـــ ثاني اقتصاد في العالم ـــ فقد حققت ما حققته ألمانيا ولم تجعل المعونة الأمريكية سيفا يقطع أوصالها ويلغي قرارها.
وقد سمعنا عن تعليمات مصرية عليا برفض المساعدات الأمريكية إذا تضمنت شروطا مجحفة أو اختراقا للسيادة المصرية. وقد أبلغني صديق يعمل في هذا المجال أن المعونة الأمريكية لمصر تجري مراجعتها مع إسرائيل، بما يجعلها أبعد ما تكون عن إحداث تطور مصري يذكر، وهذا هو الهدف من المساعدات. وحتى نتحدث عن قلب المشكلة فإن الولايات المتحدة كانت تتعامل مع الحكومات، وبعد التطورات الأخيرة هناك ضغوط من مراكز وهيئات متعددة بالتعامل مع المعارضة السياسية والجهات الفاعلة سياسيا، وهو موقف لا يحسد عليه الطرفان، ولكن التجربة أثبتت أن أمريكا لا تستفيد من أخطائها ربما لأن صناعة القرار فيها تمر بالعديد من المناطق ويتدخل فيها كل من له قدرة ضغط.
بيت القصيد أن مصر أمامها طريقان إما اللجوء للأشقاء العرب خاصة أن المبلغ ليس بالكبير أو أن تعمل وتتخذ من الدول ذكرناها قدوة فتحسن إدارة اقتصادها وتركز على الصناعة والزراعة بدلا من العزف وراء الطعم الأمريكي بتحويل مصر إلى بلد يستمد معظم دخله من السياحة، لأن السياحة مجال شديد الهشاشة، ويكفي قليل من الاضطرابات أو قليل من الشائعات لإيقافها، وهو أمر ترجعه كثيرا الدول التي تعطى المعونات لأهداف سياسية.
إن المواطن المصري في حاجة إلى بذل مزيد من الجهد في جميع المجالات وهو مطالب بتكثيف البحث العلمي والعمل في مجالات الصناعة الخفيفة، فلا تتحول مصر إلى منفذ بيع صيني لضعف الوعي لدى رجال الأعمال أو لأنانيتهم وكسلهم. هنا ستتحول الأرقام إلى ورقة نجاح وستخطو مصر إلى الأمام. ومن العار أن تبقى دولة في عراقتها كل ما تفعله هو البحث عن المعونة والمساعدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي