صرخة مهندس

الأخ الكاتب صالح الشهوان كان قد قارب الصواب عندما اعتقد أنني ربما أكون قد شققت جيبي عندما كتبت مقالي السابق بعنوان ''قطاعنا الهندسي في مهب الريح'' قبل أكثر من ثلاثة أشهر. وأنا في الحقيقة أكاد أشق جيبا في كل يوم أرى أو أسمع فيه خبرا يتعلق بهذا القطاع، إلى الحد الذي أصبحت نفسي فيه تحدثني بمقاطعته وإلقاء همومه وراء ظهري. عندما كتبت ذلك المقال عبرت عن كم الإحباط الذي خلقه وزير الخدمة المدنية في نفوس آلاف المهندسين بطريقة غير لائقة، قابل بها تلك المجموعة من المهندسين الذين تجمعوا أمام مقر وزارته مطالبين بحسم اتخاذ القرار حول موضوع الكادر الهندسي. وبعد تلك المقابلة أطلق الوزير وعدا بتحقيق ذلك المطلب في غضون شهرين اثنين، وأكد أن الموضوع سيكون على جدول أعمال مجلس الخدمة المدنية في أول اجتماع له، وهو ما جعل كل منسوبي القطاع الهندسي يتطلعون إلى انعقاد ذلك المجلس مترقبين ما يمكن أن يتوصل إليه في هذا الصدد. وأقول إن كل منسوبي القطاع الهندسي تابعوا هذا الموضوع باهتمام منقطع النظير، حتى تلك القلة القليلة منهم التي تعمل في القطاع الخاص، أملا منهم أن يكون في هذا القرار انتصار ولو جزئي لحقوقهم ومطالبهم، حتى لو كان هذا الانتصار انتصارا رمزيا لا يسمن ولا يغني من جوع، وذلك لأن هموم منسوبي هذا القطاع تعددت وتنوعت حتى بلغ السيل الزبى، وأصبح الانتساب لهذا القطاع هما تنوء به الجبال عوضا عن أن يكون مفخرة ومجلبة لحياة كريمة كما هو الحال في الدول الأخرى. وعندما صدرت في الأسبوع الماضي مجموعة من القرارات عن مجلس الخدمة المدنية، وهي التي لم تتضمن أي ذكر لموضوع الكادر الهندسي من قريب أو بعيد، تجدد ذلك الشعور بالإحباط في نفسي ونفوس المساكين من منسوبي هذا القطاع، خاصة أن تلك القرارات رسخت ذلك الانحياز الذي كانوا دوما يشتكون منه للقطاع الطبي، وأغفلت هذا الموضوع الذي لا يكاد يكون أثره على خزانة الدولة شيئا يذكر، وفي الوقت الذي يقوم فيه المهندسون العاملون في القطاع الحكومي بالإشراف على مشاريع التنمية بميزانياتها المليارية، فيما لا يحصلون مقابل تلك المهام الجسيمة إلا على فتات الفتات.
وخلال الفترة الماضية، تناقلت وسائل الإعلام مجموعة أخرى من الأخبار التي أتلفت كل جيوبي، بما فيها تلك الأخبار عن العقود التي تمنحها الدولة لشركات استشارية أجنبية دون أن يكون للقطاع الهندسي المحلي أي دور فيها. والغريب أن بعض تلك العقود تتم ترسيتها على تلك الشركات دون أن نسمع عن أية منافسة معلنة أو مسابقة مهنية خاضعة للتحكيم. وآخر تلك الأخبار كان خبر ترسية عقد الأعمال الاستشارية لمشروعات وزارة الإسكان على شركة بارسونز العالمية، وقبله خبر ترسية عقد الأعمال الاستشارية لمشروعات تصريف السيول والبنية التحتية في محافظة جدة على شركة إيكوم العالمية. وبين هذا وذاك تلك الأخبار التي نسمعها عن منافسة بين الشركات العالمية لأداء خدمات استشارية لتطوير البنية التحتية في مدينة الرياض أطلقتها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، وأخرى أطلقتها شركة أرامكو السعودية لمشروعات إسكانية لمنسوبيها، وثالثة تطلقها الهيئة الملكية للجبيل وينبع لمشروعات تطوير مدينة راس الخير، وغير ذلك الكثير من المنافسات والمشروعات التي سمعنا عنها أو لم نسمع. كل هذه المنافسات لم تر فيها تلك الجهات أي جدوى من إتاحة الفرصة للكيانات الاستشارية المحلية للانخراط فيها ولو بجزء يسير منها. وفي الوقت ذاته تشتكي تلك الجهات من افتقار تلك الكيانات المحلية للخبرات الفنية التي تؤهلها للعمل في مثل هذه المشاريع. وأنا لا أدري في الحقيقة من أين تخلق الخبرة، وكيف يمكن لهذه الكيانات أن تكتسب الخبرة التي تطلبها تلك الجهات إن لم تتح لها فرصة المشاركة جنبا إلى جنب مع تلك الكيانات العالمية، ولو على سبيل نقل الخبرة وتوطينها. وفي النهاية، فإن العدد المسجل من المكاتب الهندسية المحلية الذي يزيد على ثلاثة آلاف مكتب، لا تجد أمامها سبيلا إلا للمنافسة على الجزء الأصغر والأقل جدوى من كعكة العمل الهندسي، فيما تذهب العقود الضخمة لتلك الكيانات العالمية دون أي التزام عليها تجاه تدريب وتأهيل الكيانات المحلية أو حتى الأفراد من المهندسين السعوديين. وإلى أن تنتهي هذه الطفرة التي تعيشها المملكة، فإن هذه الفرص التي يتم تفويتها على القطاع الهندسي بقصد أو بغير قصد للارتقاء بخبراته وإمكاناته الفنية والمهنية هي في الحقيقة فرص لن تتكرر ولن تتاح مثلها مرة أخرى لهذا القطاع. وفي النتيجة، سنجد أن هذا القطاع قد خرج من هذه الطفرة صفر اليدين، فلا خبرات جمعها لتزيد من تأهيله وتنافسيته، ولا هو قطف جزءا يسيرا من تلك الأرقام الفلكية التي يتم تحويلها إلى حسابات تلك الشركات العالمية خارج المملكة.
وفي الجانب الآخر، فإن الهيئة العامة للاستثمار ما زالت تعمل وفق أجندتها لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية دون أن تحقق أي جهد يذكر في سبيل تحسين المناخ الاستثماري أمام المستثمرين المحليين. وهي على وجه الخصوص، وفيما يتعلق بالقطاع الهندسي، ما زالت تمنح التراخيص لكيانات هندسية أجنبية لتخوض غمار المنافسة على مشروعات التنمية. ومع أن الأنظمة تفرض على المستثمرين الأجانب في القطاع الهندسي نسبة محددة من الشراكة مع مهندسين سعوديين، إلا أن هيئة الاستثمار تقوم بمنح التراخيص لتلك الكيانات لممارسة أنشطة أخرى لا تشترط تلك الشراكة، وتغفل في ذات الوقت عن المخالفات التي تمارسها تلك الكيانات بتقديم خدمات استشارية هندسية غير مرخصة. ونحن نرى في سوق العمل الهندسي كثيرا من الكيانات التي تحمل تراخيص مقاولات وإنشاءات وإدارة مشاريع وغير ذلك، وهي تقوم بتقديم خدمات هندسية لقطاعات عريضة من العملاء الذين لا يجدون حرجا أو غضاضة في التعاقد مع مثل تلك الجهات طالما كانوا يقدمون خدمات أقل أسعارا من تلك التي تطلبها الكيانات الهندسية المرخصة، حتى لو كان ذلك على حساب جودة العمل وفقدان المسؤولية المهنية. الأخطر من وجهة نظري هو ما تقوم به بعض جهات الدولة من التعاقد مع جهات غير مرخصة لتقديم خدمات هندسية لمشاريعها. والأكثر خطورة أن تكون وزارة المالية، وهي حامي حمى المال العام في المملكة، هي في الوقت ذاته أحد أكبر المخالفين لأنظمة العمل الهندسي، عبر منحها عقودا هندسية لجهات غير مرخصة، ومنها شركة دار الهندسة التي قامت وما زالت تقوم بإنجاز عقود ضخمة لأعمال هندسية في المملكة، وتترفع في الوقت ذاته عن الانخراط في نظام تراخيص الهيئة السعودية للمهندسين، وتحصل مع ذلك على مزيد من العقود تحت سمع وبصر المسؤولين في وزارة المالية وغيرها من الجهات الحكومية.
لا أدري إن كان هذا المقال هو آخر ما أكتب عن هذا الموضوع، إذ إن الإحباط قد بلغ مني كل مبلغ، وصرت أشعر بأن هذا الحديث لا يجد أي صدى من الاهتمام أو التفاعل أو حتى التقدير. كل ما أرجوه أن يصل صوتي وصوت منسوبي هذا القطاع المسكين إلى ملكنا الصالح الذي لا يضام عنده أحد، فهو ملجأنا بعد الله، وفيه نروم خلاصنا من هذا الضيم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي