تأملات رمضانية
- هلَّ علينا في هذه الأيام المباركات، شهر رمضان وهو الشهر الذي تتعلَّق فيه القلوب بالمساجد وتهفو لقراءة القرآن ويجتهد الصائمون في ختام قراءته خلاله، معتبرين هذه القراءة رياضة روحية يغسل بها العبد هموم نفسه ويطمع بها في غفران ذنوبه، وقديما تساءل الطبري: إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته؟!
- ظن البعض حتى وقت قريب، أن الصيام من الأمور الخاصة بالديانات السماوية، والوضعية المتعددة؛ فلم يكد ينتشر تاريخ الطب بينهم، حتى تيّقنوا أن الصيام له تأثيره الإيجابي والواضح لكثير من الأمراض، ويعد من مقومات الصحة الجسمانية، كما اكتشفوا منذ فجر التاريخ أنه من أقوى العوامل التي تخلّص الجسم من سموم الأغذية، التي نتناولها لاحتوائها على مواد زائدة، لا تطيق بنياتنا البشرية أن تختزن منها مقدارا يزيد على الحاجة! فضلاً عن إطلاق حرية الطعام للإنسان، جعله يتناول كل ما يقع تحت يده، ما سبّبت له الكثير من الآفات المرضية، التي باتت وبالا عليه!
- لذلك، يُعد الصوم، ذا تأثير مهم في تخفيف الأعراض التي تصيب الأعضاء الظاهرة والباطنة، وحصة الروح من هذا الصيام بلا شك، لا تقل أهمية ولا قيمة عن حصة الجسم.. في هذا الخصوص، حيث يُعد الصوم فرصة جيدة وموسما مهما، يساعد على كبح جماح الكثير من المشكلات النفسية، منها حالة المدخنين الذين اعتادوا استهلاك السجائر بانتظام خلال الأيام العادية بمعدل زمني لا يزيد على دقائق معدودات بين إشعال سيجارة بعد سيجارة حتى يحتفظ بمستوى متوازن من مادة النيكوتين التي تم تصنيفها ضمن مواد الإدمان..! فيأتي شهر الصيام ويضطر المدخّنون إلى الامتناع عن التدخين على مدى ساعات النهار؛ ما يعطي فرصة سانحة للمدخنين الراغبين منهم في الإقلاع عنه لاتخاذ قرار التوقف نهائيا عن التدخين!
- إضافة إلى ذلك، يشكّل الصيام، رياضة نفسية متفردة، قادرة على تربية الإرادة القوية، وتكوين العزيمة الصادقة، فإذا استقام للصائم هذان الأمران: قوة الإرادة وصرامة العزيمة، فقد استقام له التحكم في نفسه، راغبا بها في تحصيل مراضي الله وتجنُّب مساخطه ونواهيه، عزّ وجلّ، وهذا هو معنى التقوى التي لا سبيل إليها ولا مطمع فيها إلا من هذه الطريق، وهو ما انطوى عليه قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
- صحة الصوم وحسن أدب الصائم في صومه، صحة مقاصده، ومباينة شهواته، وحفظ جوارحه، وصفاء مطعمه، ورعاية قلبه، ودوام ذكره، وقلة اهتمامه بالمضمون من رزقه، وقلة ملاحظته لصومه، ووجله من تقصيره، والاستعانة بالله تعالى على تأديته، فلذلك أدب الصائم في صومه.
- من دقة الإمام الشافعي، رضي الله عنه، أنه لم يقل: إن الصوم يعلّم الجود، أو يبسط الأيدي، وإنما تمنّى أن يكون الصائم كذلك، فقال في أسلوبه الدقيق: "أحب للصائم الزيادة بالجود في شهر رمضان؛ اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم فيه بالعبادة عن مكاسبهم".
من طرائف العقول المستبصرة ما رواه الإمام ابن كثير في تفسيره من أن أعرابيا، جاء إلى الضريح النبوي الشريف، وقال: "السلام عليك يا رسول الله، لقد قال الله في كتابه العزيز: "وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا"، وقد جئتك مستغفرا لذنبي، مستشفعا بك إلى ربي، ثم أنشأ، يقول:
يا خير مَنْ دفنت بالقاع أعظمه
فطاب من طيبهن القاع والأكمُ
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
وانصرف الأعرابي، وكان جالسا، بالقرب منه رجل صالح، يسمع كلامه، فأخذته سنة من النوم، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، يقول له: الحق بالأعرابي؛ فبشّره بأن الله قد غفر له...!