روبرت مردوخ كما صورته الصحافة الغربية

في الأدب الغربي، هناك بطل تراجيدي يقضي لأنه يعاني من خلل تراجيدي يمنعه من رؤية الأشياء كما هي، هذا ما حدث مع أبطال شكسبير التراجيديين أمثال ماكبث ومع الملك لير وآخرون. فلم ير أي منهم ذلك الخلل الذي زرع بذور نهايتهم بشكل تراجيدي كما هو معروف لمن قرأ تلك الروائع لشكسبير. لا نعرف بعد إن كان روبرت مردوخ هو آخر الأبطال التراجيديين ولا نعرف إذا كان بالإمكان اعتبار الفضيحة الأخيرة بداية النهاية لشخصية شغلت العالم لفترة ليست ببسيطة غير أنها شخصية تمكنت من خلق حضور لها طاغي أخاف الكثير من السياسيين مما جعل مردوخ إمبراطورا غير متوج. لكن ما من شك أن الفضيحة الأخيرة قد كشفت وجها آخر لمردوخ ما دفع العديد من السياسيين لإدانته وهم أي السياسيين كانوا لا يمتلكون جرأة مجرد النقد لمردوخ نظرا لسيطرته على الإعلام وتأثير ذلك على فرص السياسيين.
فبعد فضيحة التنصت التي يبدوا أنها تعصف بإمبراطورية روبرت مردوخ الإعلامية والتي تخضع لتحقيقات، يتساءل الكثيرون فيما إذا حان وقت رحيل وترجل هذه الشخصية التي تعني للسياسيين والمستثمرين شيئين مختلفين، فبالنسبة للسياسيين فهو رجل يستطيع صنع وتحطيم السياسيين وهو من قام ببناء إمبراطورية إعلامية عالمية، فيما بالنسبة للمستثمرين فهو عبء لأنه يمنع إدارة الإمبراطورية بشكل سهل وميسر مع أنه يحقق نجاحات كثيرة كلما تقدم في السن. فروبرت مردوخ البالغ 80 عاما يحقق نجاحات عز نظيرها، وكان ولوقت قريب يهدد الإعلام البريطاني من خلال سعيه وعرضه لشراء ما تبقى من حصص وأسهم بي سكاي بي.
في فترة سابقة كانت صناعة الإعلام حكرا على عائلات، الآن الأمر مختلف مع التطور التكنولوجي، وقد وصل روبرت مردوخ إلى لندن في الستينيات من القرن الماضي وكان هو من اخترع صحافة التابلويد وتمكن من تحويل صناعة الصحافة إلى إمبراطورية إعلامية كبيرة. وحتى في أمريكا تمكن من كسر معاقل شبكات البث الرئيسية الثلاث إذ تعد قناة فوكس نيوز التابعة له عملا ربحيا كبيرا مع أنها أغضبت الليبراليين كثيرا. وبالفعل هناك ملايين الأمريكان لا يشاهدون سوى فوكس نيوز وهي المحطة اليمينية التي تعمل على خلق انطباعات غير صحيحة وبخاصة عن العرب والمسلمين، ولا يمكن أن نتجاهل دورها في حشد التأييد لإسرائيل على حساب القضايا العربية وعدالتها.
هناك متغيرات في صناعة الصحافة وهناك من يقول إنها تعاني من انهيار نتيجة لتطورات تكنولوجية أخرى، ومع ذلك نجد روبرت مردوخ مستمرا في استثمارات لا حد لها. وربما يتمكن مردوخ من إبقاء الصحافة الورقية لأنه يؤمن بذلك ومستعد للاستمرار بها ما يعني أنها أي الصحافة الورقية باقية لفترة من الزمن. طبعا بعد تطور الإعلام الإلكتروني وخسارة بعض الصحف الكبيرة وإغلاقها ومنافسة الإنترنت للصحف على الإعلانات يتوقع بعض الخبراء أن تنقرض الصحافة الورقية لصالح الصحافة الإلكترونية، وبالفعل أغلقت بعض الصحف ويمن القول إن مواقع أو صحف إلكترونية مثل الهفنغتون بوست والديلي بيست تستقطب ملايين من الشعب الأمريكي ما يعني منافسة للصحف الورقية غير مسبوقة حتى لفترة قريبة. اللافت أن اهتمام روبرت مردوخ بالصحافة الورقية سيمد في عمرها في منافستها مع وسائل إعلام جديدة غير ورقية.
فضيحة التنصت الأخيرة هزت عرش إمبراطورية روبرت مردوخ، فالفضيحة أحدثت ردة فعل غاضبة في بريطانيا واضطرت شركته للتوقف عن متابعة صفقة شراء محطة بي سكاي بي، وهي محطة فضائية أسهم مردوخ في بنائها. وينتظر مردوخ ربما محاكمة وملاحقات قضائية وهو أمر سيحرر السياسيين البريطانيين من نير مردوخ وسلطته وقدرته على تحديد مستقبلهم السياسي، وهو أمر ربما يدفعهم لتصليب اللوائح والتنظيمات حتى تتمكن من الحصول على ثروة من الإعلام أمر ليس سهل المنال. ومن المبكر الحكم على ما يمكن أن تقوم به الحكومة البريطانية تجاه الصحافة، غير أنه ومع الانهيار الأخلاقي لمردوخ وإمبراطوريته الإعلامية ربما تلجأ الحكومة لإجراءات صارمة مع الصحفيين والصحافة.
هناك أكثر من نتيجة للفضيحة، فمثلا، أظهرت الفضيحة مخاطر أن تبقى الشركة تدار وكأنها شأن عائلي، فابن مردوخ - جيمس مردوخ - هو رجل صاحب كفاءة عالية وقام بإدارة محطة بي سكاي بي بكفاءة اضطر لإدارة الصحف ما أضعف منه، فلو كان جيمس منتهيا باسم عائلة آخر لكان ناجحا في إدارة شركة إعلام أخرى. فهو لم يكن مرتاحا أبدا في الإعلام المكتوب. فقيام روبرت مردوخ في وضع ابنه مسؤولا عن الصحف كان عملا من طراز قديم وليس عملا نابعا من مدير تنفيذي حقيقي، فمردوخ أخفق في فهم ضرورة البدء وفورا بتحقيق داخلي في قضية التنصت. فكان قرار تعيين جيمس مردوخ نابعا من فرضيتين هما: ضرورة زرع شاب ليكون في موقع قيادة وأن مستقبل النيوز كوربوريشن سيكون في الصحافة. والجدير بالذكر أنه لا الشركة ولا المساهمين قادرين على التخلص من مردوخ، لكن الشركة ستكون في وضع أفضل بكثير إذا تم التخلص من نمط الإدارة الإقطاعي. ويرى البعض أن على روبرت مردوخ التنحي عن إدارة أمور الشركة اليومية ويبقى مديرا عاما وليس مديرا تنفيذيا وبخاصة أن له قدرة على تعيين مديرين أكفاء.
ونعود للسؤال فيما إذا كان روبرت مردوخ التايكون الأخير؟ ففي مقال لروبرت تيتلمان نشر في "الإيكونوميست" في الـ 27 من الشهر الماضي طارحا نفس التساؤل. وتجادل المجلة أن الإطاحة بمردوخ تتم لأنه يدير شركة عائلية وعملاقة أو أنه وببساطة افتقد لمساته أو أنه زرع نفسه في الجانب الخاطئ من التاريخ. ويتطرق المقال أيضا لظهور الإنترنت والذي سيهدد مسألة تركيز السلطة والقوة للأبد. فالمجلة أقرب في تغطيتها لفكرة بسيطة مفادها أن البشر ارتفعوا وارتقوا إلى مرحلة متقدمة جدية، وهي مرحلة لن تسمح لأي تايكون معتمدا على أساليب إدارية إقطاعية بأن يزدهر.
فعلى الغلاف لمجلة "الإيكونوميست" نرى صورة لمردوخ وعبارة مأخوذة من فرانسيس فوكوياما وهي عنوان كتاب له "نهاية التاريخ وآخر رجل". غير أن فوكوياما كان قد استعمل العنوان للإشارة إلى تطور إيجابي، أي كمرحلة نهائية لتطور التاريخ، فما قصده فوكوياما هو أن الليبرالية الاقتصادية انتصرت وأنه بذلك يصل الإنسان إلى آخر مراحل التطور في التاريخ، وهو طبعا ليس نفس المعنى الذي أشارت إليه المجلة، فهي أشارت إلى نهاية مردوخ نفسه واستبداله. ففي نهاية المقال أشارت المجلة إلى أنه بينما مردوخ يعد آخر تايكون إعلامي فإنه لن يكون آخر شخص يبني إمبراطورية، فالسيد مردوخ سيسدي معروفا للمساهمين ولعائلته إن استبطن هذه الحقيقة وترجل.
والبعض يشير إلى أنه منذ إخضاع شركة الهند الشرقية على ركبتيها في القرن التاسع عشر لم يمارس قط قوة سياسية في بريطانيا ضد مشروع خاص ومؤثر. فقد طالبت غالبية البرلمان البريطاني أن تسحب النيوز كوربوريشن التابعة لمردوخ مشروعها للسيطرة بشكل كلي على بي سكاي بي، وقامت شركة مردوخ بالامتثال وسحبت عرض الشراء. الخطأ يعود على مردوخ نفسه الذي لم يقم لغاية الآن بطرد المتورطين في إشكالية التنصت وهنا نتحدث عن شخصيات مهمة مثل ربيكا بروكس، محررة نيوز أوف ذي ورلد.
ومن المنتظر أن تكون عواقب الفضيحة إيجابية بالنسبة للسياسيين. فرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون كان قد فتح تحقيقا علنيا وكان التحقيق قاسيا على مردوخ، ويمكن القول إنه أسهم في إضعافه، ورئيس الوزراء الذي قام بتعيين أندي كولسون الذي عمل محررا في نيوز أوف ذي ورلد أثناء عملية التنصت لاقت انتقادا كبيرا مما يعني أن ديفيد كاميرون سيكون أكثر حرصا في المرة القادمة حيال شخصية من يعين للعمل في معيته. كما أن مستوى ومعايير الصحافة والمهنية سترتفع، وسيعاقب المتورطون بالسجن. لكن ليس كل العواقب ستكون إيجابية، فهناك خطران هما: الأول أن الفضيحة يمكنها أن تعيد تشكيل النيوز كوربوريشن بشكل يجعلها أقل ميثالية، والثاني أن الغضب البريطاني يمكنه أن يفضي إلى تعليمات صارمة مما يفقد الصحافة الكثير من ميزاتها.
هناك في بريطانيا اهتمام عام بأن تخضع الصحافة البريطانية للتنظيم بطريقة نزيهة، فالصحف الآن تخضع لهيئة أو لجنة الشكاوى الصحفية، وهي لجنة وضعت من قبل صناعة الصحافة عام 1991 لتنظيم المهنة. وكان الغرض من إنشاء هذه اللجنة هو التأكد من تطبيق مدونة السلوك الخاصة بالصحافة وتتعامل مع الشكاوى المتعلقة بذلك. غير أن قدرتها على السيطرة على صحف التابلويد كانت غير موجودة بل ومثيرة للشفقة. اللافت أن صحيفة الغارديان وليس اللجنة هي من قامت بلفت الانتباه لما جرى في نيوز إنترناشونال، ولهذا السبب يطالب البعض باستبدال اللجنة بلجنة مستقلة ماليا عن صناعة الصحافة ويكون لها ميثاق شرف أو مدونة سلوك أكثر صرامة.
وعودة على موضوع مردوخ، فهناك من يشكك فيه وقد طرح ألن هارت فيما إذا كان مردوخ جاهلا أم عميلا للخداع الصهيوني؟ ويسلط ألن هارت الضوء على خطاب حديث كان ألقاه مردوخ في منظمة مكافحة التشهير الأمريكية، وهنا لا بد من التعريف بهذه المنظمة التي تزعم أنها تكافح ضد معاداة السامية في حين أنها في واقع الحال وبقيادة أب فوكسمان تقوم بشن حملات تخويف وإخراس من ينتقد أعمال الصهيونية. ففي خطابه يقول مردوخ: "نعيش في عالم الحرب فيه ضد اليهود مستمرة، ففي خلال العقد الأول بعد إقامة دولة إسرائيل كانت هذه الحرب تقليدية بطبيعتها، فالهدف كان واضحا ومباشرا وهو استعمال القوة المسلحة لتدمير إسرائيل".
وكان هذا السبب لدعم مردوخ للصهيونية وادعاءاتها بأنها كانت تعيش في العقد الأول من نشأة دولة إسرائيل بخطر الانقراض، وهنا يقول ألن هارت إن الصهيونية وإسرائيل لم يكونا موضع خطر منذ البداية. فكان لهذا الادعاء وظيفة حتى تتمكن إسرائيل من أن تفلت من الانتقادات الغربية وهي تمارس سياسات التوسع وهي تقدم اعتداءاتها في سياق الدفاع عن النفس وتقدم نفسها كضحية. وبعد أن يقتبس ألن هارت من مختلف السياسيين والضباط الإسرائيليين بأن إسرائيل لم تكن تواجه خطر الفناء في عام 1967 يقول ألن هارت إن مردوخ أما جاهل أو عميل.
باختصار، تشغل قضية روبرت مردوخ الرأي العام العالمي، ولا يمكن التستر على الفضيحة الأخلاقية التي مست شركته ولا يمكن تقليل العواقب التي ستنتج لقاء إنهاء التحقيقات في القضية. فهناك شغف عالمي لمعرفة كيف سيسقط الإمبراطور الذي كان ولأسابيع قليلة ماضية غير قابل للمس، فمردوخ الذي يعد الشخصية الأشهر في صناعة الإعلام أشبه بالبطة العرجاء الآن التي لا يمكن التعويل عليها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي