أمريكا.. غير معقول مقبول
مما ينقل عن الزعيم البريطاني ونستون تشرشل قوله إنه عندما يأتي الوضع للأمور المالية في الدولة عندئذ كل شيء قابل للإجماع يصبح غير مقبول أو غير معقول، وكل شيء يعد معقولا أو مقبولا يكون حينئذ غير قابل للإجماع.. يبدو أن السياسي الكبير يقدم أفضل وصف للمشهد السياسي الأمريكي الأيام الماضية، وبالتأكيد في السنوات اللاحقة، فما هو غير مقبول أو معقول أجمع الحزبان عليه وتم تمرير صفقة رفع الدين وخفض الإنفاق، وهذا ليس حلا لمشكلة الدين الرهيب، بل هو تأجيل وترحيل للمشكلة. ويبدو أن الأمور في أمريكا تديرها فعليا (حكومة الوول ستريت) طبقا لما استنتجه روبرت جينايزوا، أحد رواد حركة العدالة الاجتماعية في أمريكا وأحد المشاركين في الفيلم الوثائقيlnside job.. والآن في أمريكا أربعة بنوك تسيطر على 40 في المائة من الودائع و50 في المائة من القروض العقارية و70 في المائة من بطاقات الائتمان، وتملك من الأصول ما يعادل 61 في المائة من إجمالي الناتج المحلي GDP، أو ما يقارب 7.5 تريليون دولار.
لقد نمت الاحتكارات في القطاع المالي بشكل مخيف، وبدأت المأساة مع وصول الرئيس ريجان، فقد ألغى القيود التشريعية على القطاع فبدأت تنمو البنوك الكبيرة، وحدثت الأزمة في بنوك القروض والادخار في عام 1987، وتم تجاوزها بدفع 126 مليار دولار للبنوك من دافعي الضرائب لتسوية أوضاعها، ثم جاءت القفزة الكبرى في عهد الرئيس بوش الابن الذي مرر مع الكونجرس قوانين أطلقت القطاع المالي ليقدم القروض لمن يشاء ودون قيود أو شروط.
وهذا النمو الكبير أوجد ظاهرة البنوك العملاقة، وحتى تبقى هذه البنوك بعد الأزمة المالية الأخيرة تم إقناع الناس بأن انهيار أو إفلاس البنوك الكبيرة خطر على النظام البنكي، لذا لابد من دعمها، ومرر السياسيون في البيت الأبيض المتحالفون مع الكونجرس هذه الكذبة، والنتيجة هي أن البنوك التي كانت سبب المشكلة تضاعف حجمها وازدادت قوتها المالية، وأصبحت خطرة على النظام المالي والاقتصاد، ومصدرا رهيبا للقوة السياسية، فلديها المئات من جماعات الضغط السياسي في واشنطن والتي تقوم بدور الحكومة الخفية.
شيء مؤسف في حق أمريكا والشعب الأمريكي أن يقود هذا القطاع أمريكا للخراب الاقتصادي.. لقد حولوا أمريكا من (دولة) إلى (شركة)، طبقوا الأدوات المالية البحتة على إدارة الدولة دون النظر إلى التبعات الاقتصادية والاجتماعية التي تنتج عن هذه الرغبة الجامحة للثراء والأنانية المطلقة لعدم التنازل عن البذخ لدى الأثرياء مقابل إنقاذ الطبقة الوسطى التي تتجه بانحدار شديد نحو الفقر.
في السنتين الماضيتين، ازداد الأثرياء ثراء، وكمؤشر على الوضع، مديرو صناديق التحوط الكبيرة بلغ دخلهم العام الماضي 25 مليار دولار، وهناك (أقل من 1 في المائة من السكان) 400 عائلة أصبحت تمتلك 25 في المائة من الناتج المحلي الأمريكي، وخلال الـ 12 عاما الماضية تضاعف دخلها وتراجعت الضرائب عنها إلى النصف ودفعت 16.6 في المائة ضرائب وهي الأقل في تاريخ أمريكا.
ألم يكن معقولا وفي مصلحة أمريكا، أن يتم دعم البرامج التعليمية والاجتماعية والصحية ودعم مشاريع البنية الأساسية التي تولد الوظائف مقابل رفع الضرائب الإنتاجية على مراكز الثراء الكبير لتنمية موارد الدولة.
لقد كان هذا هو الحل المعقول الذي ينقذ أمريكا من الورطة والذي يجب الإجماع عليه.
السياسيون (أو بالأصح مندوبو الشركات) اختاروا واتفقوا على ما هو غير معقول.. وهنا تأتي خطورة تركز واحتكار السلطة في السياسة والمال والإعلام.. هذا هو الزواج الخطير!
أمريكا الآن تقدم النموذج السيئ للإدارة والحكم، ألا يدعو هذا للأسى!