ولّى عصر الطاقة الرخيصة

اكتمل تحرُّك اقتصادات العالم إلى مركزية قطاع الطاقة، فيصعب الحديث عن اقتصاديات المواصلات أو حتى قطاع الصناعة المعلوماتية دون قبول حقيقة أن الطاقة هي التكلفة الأهم في المعادلة. أهم تناقض نتعايش معه اليوم هو التالي: أنه على الرغم من اعتمادنا شبه الكلي على تصدير الطاقة إما مباشرة (النفط) أو غير مباشرة (البتروكيماويات وغيرها من أي مواد مصنعة) إلا أن نمو استهلاكنا للطاقة يفوق قدرتنا على نمو التصدير حتى ولو أن الأسعار الحالية مرتفعة نسبياً تخفي الحقيقة مؤقتاً. هذا التناقض تعبير عن حالة اقتصادية غير صحية، لكنه يحمل أيضاً المفتاح الواضح لمرحلة جديدة في إدارة الاقتصاد السعودي.
تركيبة الرفاه غير المتماثل لا تقود إلى تنمية شاملة مستدامة أو هيكل اقتصادي صحي مهما حسنت النوايا. أوجه عدم التماثل كثيرة، فعل سبيل المثال يقدم الدعم للوقود والكهرباء والمنافع للكل، المواطن وغير المواطن، القادر وغير القادر على الدرجة نفسها، وفي هذا هدر وعدم عدالة في ظل آلية تساوي الأسعار للجميع. مثال آخر يباع الغاز لشركات البتروكيماويات مقابل 0.75 دولار لكل مليون وحدة طاقة حرارية، فمثلاً هذا يكلف شركة مثل ينساب نحو 35 مليون دولار في السنة، بينما أرباحها في النصف الأول من هذا العام نحو 1.681 مليار ريال، فهذا رخصة لطبع النقود تحت "مظلة" تنمية الصادرات الصناعية، بينما هذه المجمعات الصناعية لا توظف أكثر من مئات قليلة لإدارة معامل كبيرة مرتفعة التكاليف الإنشائية. فهناك علاقة غير متماثلة أخرى حين بدأنا استخدام النفط غالي القيمة في توليد الكهرباء بينما نصدر الغاز كمنتج بتروكيماوي تحت اسم تنمية الصناعة. هذه التناقضات المتوسطة في قلب تناقضات كبيرة بسبب غياب المظلة الاقتصادية الكبيرة لترتيب الأوليات وتقنين الاختيارات.
ما الحل؟
الخطوة الأولى هي وضوح الفكر، فنحن لسنا ضد الرفاه أو دعم المحتاجين، وبالتأكيد مع الصناعة كخيار وطني، لكن ما يؤلم هو غياب الفكر التأطيري لأهم موضوع اقتصادي يتعدى أهمية أرقام الميزانية وحجم الرصيد بالنقد الأجنبي لدى مؤسسة النقد. وحتى لو اكتشفنا مزيداً من الغاز لا بد من مواجهة الواقع والتخلص من سياسة رمي الكرة على أمل تفادي المسؤولية. يبدو أنه ليست هناك سياسة طاقة، بل إن الواضح أن هناك غيابا لافتا للمجلس الاقتصادي الأعلى عن أعلى موضوع في اقتصاد المملكة واختزل الدور إلى التعامل مع الشكاوى وحل الخلافات بين المؤسسات الحكومية أو الاختلافات في المصالح بين المستفيدين من الدعم وحاجة الاقتصاد الطبيعية للنمو.
التحديات الاقتصادية والتنموية صعبة دائما، لكنها ستكون أصعب دون إعادة التفكير في مركزية إعلان الأولويات من خلال إعادة التسعير ستكون مهمة مستحيلة. هناك مقولة فلسفية تذكر بما معناه أن ما لا يمكن استمراره فإنه سيتوقف لا محالة، ولكن القدرة والمهارة القيادية تتطلبان تفكيرا استباقيا جديا ومبسطا، (وهذا ممكن) لفرز الأوليات قبل فوات الأوان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي