ظاهرة الإيقاع الموسيقي في المساجد
لا تزال مشكلة الرنين المزعج، وأحيانا ظاهرة الإيقاع الموسيقي الصاخب، لجوالات بعض المصلين، تتعمق يوما بعد يوم، ولا يكاد يخلو مسجد إلا ويتذمر فيه المصلون من هذه الظاهرة المزعجة، وأحياناً يحصل تلاسن من بعض المصلين ضد حاملي هذه الأجهزة ذات النغمات المرتفعة، فيتحول المسجد من محل عبادة إلى ساحة صراع مفتوح، وغالبا ما تفشل محاولات أئمة المساجد في التحذير من سلبية هذه الظاهرة، بسبب توارد وجوه جديدة من المصلين، وخصوصا المساجد التي تقع على الشوارع العامة أو القريبة منها، ولذا يضطر الأئمة تارة لوضع اللافتات في مواجهة الداخل للمسجد ليتنبه بضرورة إقفال الجوال، أو برمجته على الوضع الصامت، وتارة أخرى بالتنبيه عبر الكلمات عقب الصلوات، وعبر خطب الجمع، إلا أن هذه المحاولات لم تحد من هذه الظاهرة بالمستوى المأمول، بل لا تزال في تنام مستمر؛ لأسباب من أهمها: أن الجماعة ليسوا نسيجاً واحدا، فكثيراً ما يتردد على المسجد أناس من خارج الحي، وأحيانا لا يستجيب بعض المصلين للنصائح المتكررة؛ لأنه يرى مصلحته الخاصة أرفع من مصلحة العامة، وأحيانا يكون المصلي من الجالية غير الناطقة بالعربية، فلا يفهم لغة الناصح، أو لا يريد أن يفهمها؛ إذ ربما تفوت المكالمة ويفوت معها فرصة عمل، أو يضطر بسبب فواتها لإعادة الاتصال وتحمل تكلفة المكالمة، وأما جهاز قاطع الإرسال فمع كونه ممنوعا من الوزارة المعنية فإنه ثبت بالتجربة أثره السلبي على تردد شبكات الاتصال خارج المسجد، وحيث فشلت كل الحلول المتاحة، لذا نرى كـ ''حل بعيد المدى'' أن تقوم وزارة الشؤون الإسلامية بخطط استراتيجية تستهدف معالجة هذه المشكلة عبر آليات عدة، منها على سبيل المثال، لا الحصر:
1- فرض طراز حديث لبناء المساجد، بحيث تبنى الجدران بسماكة محددة، تمنع أو تحد من وصول الإرسال، ويكون للأبواب وللنوافذ والزجاج مواصفات معينة تعزل الصوت والتردد الخارجي، ويكون البناء العام للمسجد عاملا مساعدا للحد من استقبال التردد، كما هو الحال في الغرف المصمتة، وكالمصاعد الكهربائية المغلقة، فإذا كان بناء المساجد ووضع الأبواب والنوافذ بشكل محكم، فإنه إن لم يمنع ظاهرة الرنين المزعج والأصوات الموسيقية الصاخبة، فإنه سيحد منها بلا شك، كما هو الحال في العديد من الأبنية ذات المواصفات المحكمة، وهذا حل طبيعي دون تدخل تقني.
2- وضع حوافز مغرية لهواة براءات الاختراع؛ لتصنيع تقنية لا ينتج عنها إشكاليات في المستقبل، وقد وجدت براءات اختراع لأمور أكثر تعقيداً من هذه الحالة المتواضعة، ووزارة الشؤون الإسلامية لديها الإمكانات الكافية لتصنع حلولا جذرية لهذه المشكلة، كما نتطلع منها لأن يكون لها دور رائد في وضع نظام خاص لعمارة المساجد والجوامع يجسد الصورة الحضارية للعمران المتطور، لا سيما في ظل أمثلة حية تجسد واقعا يمكن أن يستنسخ منه نموذج مميز.
وهذا كله لا يقلل من أهمية تثقيف الناس عبر وسائل الإعلام المحلية، وذلك بضرورة احترام المساجد، وعدم إشغال المصلين بهذه المظاهر المزعجة، وقد وجدت تقنية الجوال حلاً بجعله على الوضع الصامت، ويمكن أن يكون هذا التثقيف برعاية الوزارة ذاتها، كما ينبغي تذكير الأئمة بضرورة تنبيه المصلين بوضع أجهزتهم النقالة على وضع الصامت، وذلك ليكتسب المجتمع هذه الثقافة، وتعم أرجاء المدن والقرى، مع ضرورة مساهمة الوزارة بوضع اللافتات الكبيرة ذات اللغات المتعددة في مداخل المساجد والجوامع.
إن المساجد هي أقدس بقعة في الأرض؛ لأنها بيوت الله، ويشرع فيها من العبادات ما لا يشرع في غيرها، ولها من الأحكام ما ليس لغيرها، وفيها نزلت آيات قرآنية عدة، تعظمها، وتبجل عمارها، سواء بالعمارة المعنوية أو الحسية، ولئن كانت عمارتها معظمة في كل وقت، فهي في رمضان أكثر أهمية، وأعظم مكانة.
من الغريب حقا أن يعد البعض رفع صوت الجهاز النقال في المسجد من الحريات الشخصية، وهو يجسد صورة من صور الأنانية، وحب الذات، حيث لا يعير هذا وأمثاله بالا لمن حوله من الآدميين، كما لا يعيرهم اهتماما وهم في أهم صلة بالله حال صلاتهم واتصالهم بخالقهم؛ ليكون حجر عثرة بينهم وبين خشوعهم وصلاتهم، وليكون كحال خنزب في الأذية، ومحاولة إفساد الخشوع على المصلي، ففي صحيح مسلم أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها، فقال رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: (ذاك الشيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثا)، فّإذا كان هذا مشروعاً في هذا الخنزب الذي يكون في أثواب المصلي أو يجري في دمه، فما الحيلة في هذا الخنزب النقال؟