الأزمة السورية: مراوحة بين الحل الأمني والإصلاح السياسي
لا شك أن ما يجري على الساحة السورية من حراك شعبي، هو تأكيد آخر على عمق الصلة وروابط الدم وعلاقة الجغرافيا والتاريخ والتفاعل بين أبناء الأمة الواحدة والتشابه الكبير في كثير من مشكلاتها. فما يأخذ مكانه في قلب الشام هو امتداد لما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن وعدد آخر من البلدان العربية. ففي سورية أيضا، كما في بقية البلدان العربية، يسود شعور قوي بعجز النخب السياسية عن مقابلة استحقاقات الناس. لقد فشلت النظم العربية في برامجها التنموية والسياسية، وحجبت عن الشعب حقه في تشكيل مؤسساته المعبرة عن تطلعاته في الحرية. وكان غياب المؤسسات الديمقراطية وسيادة دولة القانون والفصل بين السلطات وتداول السلطة، وانتشار ظاهرة الفساد، وتغول البيروقراطية؛ قد أدت مجتمعة إلى غياب الثقة بمؤسسات الحكم وانتهاء الأوضاع إلى ما هي عليه الآن.
ولأن مطلب الحرية هو الشعار الذي طغى على مختلف الشعارات في الحركات الاحتجاجية العربية، فإن نداء الحرية والمطالبة بالإصلاح الديمقراطي والسياسي في سورية جاء متماهيا مع بقية النداءات التي عمت عددا من العواصم والمدن العربية. وكان المؤمل أن تتنبه القيادة السورية للمستجدات التي تجري من حولها، خاصة بعد الأحداث الدراماتيكية التي أخذت مكانها في تونس ومصر. لقد تسلم حزب البعث السلطة في سورية في ظرف تاريخي عالمي مغاير، أثناء اشتعال الحرب الباردة، حيث كان العالم أثناءها منقسما بين معسكرين، رأسمالي واشتراكي. وفي النظام الاشتراكي كان مقبولا أن يتفرد حزب سياسي بقيادة السلطة والمجتمع. أما في النظام الرأسمالي، فرغم القول بالتعددية، جرت العادة أن تكون القوة السياسية لحزبين يتناوبان على السلطة، وتحدد السياسات الاقتصادية والحاجة إلى تصعيد الضرائب أو تخفيضها، من يكون في موقع السلطة، ومن يكون في المعارضة. في مرحلة الثنائية القطبية لم يكن مستنكرا تفرد حزب سياسي على السلطة. وكانت قيادة حزب البعث للسلطة في سورية ضمن تلك الظروف متسقة مع طابع المرحلة التاريخية.
تدفقت مياه كثيرة منذ سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. وبرزت مرحلة جديدة في التاريخ الإنساني، غدا فيها النضال من أجل التعددية والديمقراطية وتداول السلطة وتدشين مؤسسات المجتمع المدني من بديهياتها. وخلال الثلاثة عقود التي مضت توقع كثيرون أن يحدث في الوطن العربي ما يقترب من الأحداث التي شهدتها أوروبا الشرقية، لكن ذلك لم يتحقق لأسباب تاريخية وموضوعية، لكن مطالب التغيير والإصلاح بقيت كامنة منتظرة فرصتها.
توقع الذين تابعوا مسيرة النظام السوري فيما يقرب من خمسة عقود، التي اتسمت بتبني سياسات براجماتية قادرة على احتواء الأزمات، أن يتنبه النظام للمتغيرات السريعة التي تجري من حوله. وأن تكون فرصة للمراجعة، وتبنى سياسات استباقية تحول دون بروز الأزمة بالشكل الذي آلت إليه، لكن ذلك لم يحدث رغم أن بوادر الوعي بالأزمة قد برزت لدى القيادة السورية منذ عدة سنوات. إلا أن الوعي بالأزمة شيء، واتخاذ خطوات استباقية بشأنها هو شيء آخر.
حدث ما هو محتوم، وبدأت المظاهرات الاحتجاجية المطالبة بالتغيير والإصلاح في عدد من المحافظات السورية. وتوقع كثيرون أن يعلن الرئيس بشار الأسد في خطابه الأول عن حزمة كبيرة من الإصلاحات يكون لها تأثير مباشر في حركة الشارع، وتؤدي في نتائجها إلى انتقال سلمي في بنية النظام السياسية، من نموذج الحزب الواحد إلى التعددية وتداول السلطة.
خلال الأشهر الأربعة الماضية، أعلنت القيادة السورية مجموعة من الإصلاحات السياسية، لكنها لم تحدث الأثر المطلوب بسبب تراكمات الماضي، ولأنها جاءت بصيغة الجرعات البطيئة التي لا تتناسب مع زخم حركة الاحتجاج، ولأنها أيضا تزامنت مع معالجات أمنية واسعة للأزمة تجاوزها الزمن ولن تعود قادرة على تحقيق الأهداف التي يبتغيها النظام.
لقد رفضت المعارضة السياسية التقليدية دعوة الحوار، وصعدت حركة الشارع أهدافها من المطالبة بالإصلاح السياسي إلى الدعوة لإسقاط النظام. وغيبت بمواقفها هذه الفرصة في تحقيق خطوات جدية على طريق الإصلاح السياسي بمختلف تجلياته.
وقد مضى حتى الآن أكثر من أربعة أشهر على انطلاق الحركة الاحتجاجية. وتأكد خلالها عجز كل الأطراف المتصارعة على حسم الصراع لصالحها.
فالحكومة السورية عجزت بوسائلها الأمنية والسياسية عن إنهاء حركة الاحتجاجات. ولم تفلح الخطوات الإصلاحية التي أعلنت عنها في تحقيق أهدافها.
والحركات الاحتجاجية هي الأخرى لم تتمكن من حسم الموقف لصالحها، لأسباب موضوعية، أهمها أن الحركة الاحتجاجية تلفعت برداء إسلامي، منذ انطلاقتها من مدينة درعا. وقد طبع ذلك حركة الاحتجاجات في المدن الأخرى. هذا الرداء، شكل نقطة ضعف في الحركة، حيث غيب المنادون بهذه الشعارات حقيقة وجود لوحة فسيفسائية، إثنية ودينية ومذهبية واسعة بالمجتمع السوري. فهناك الأكراد الذين يشكلون امتدادا تاريخيا لنظرائهم في العراق وتركيا وإيران، وهناك المسيحيون، والمسلمون العلويون والإسماعيليون والدروز والشيعة. وجميع هؤلاء يخشون من سيطرة الإسلام السياسي على السلطة، رغم أن كثيرا منهم عمل طويلا في صفوف المعارضة السورية.
يضاف إلى ذلك، حقيقة أخرى تتعلق ببنية الجيش العربي السوري. فهذا الجيش في معظمه يتكون من عناصر قدمت من الأرياف، وتشكل الأقليات الدينية عموده الفقري. لقد رفض تجار دمشق وعلية القوم فيما مضى التحاق أبنائهم بالجيش العثماني والفرنسي لاحقا. وحتى بعد الاستقلال بقيت نظرة العائلات الارستقراطية السورية سلبية تجاه التحاق أبنائهم بمؤسسة الجيش. وقد تغلبت المؤسسة العسكرية على ذلك بتجنيد شباب من الأقليات المذهبية في الأرياف. وبديهي أن يكون موقف هؤلاء الشباب القادمين من الريف والمنتمين للأقليات سلبيا من الشعارات التي يطرحها الإسلام السياسي، وتحديدا حركة الإخوان المسلمين، التي تتصدر قيادة معظم الحركات الاحتجاجية. والنتيجة أن المؤسسة العسكرية ظلت متماسكة ولم يصدر عنها ما يشي بتعاطفها مع الحراك الشعبي الذي يجري من حولها.
في الأيام الأخيرة، تصاعد استخدام النظام للحل الأمني في عدد من المدن السورية. ودخل الجيش حماه ودير الزور وإدلب، مؤكدا أن ذلك يتم في إطار ملاحقة مخربين وإعادة الأمن. لكن شلال الدم لم يستثن أحدا. فقد ذهب ضحيته الكثير من المدنيين، وضباط في الجيش والأجهزة الأمنية. ويلاحظ تصاعد المطالبات الدولية بوقف أعمال العنف في سورية. وقد عبر عن ذلك صدور بيان رئاسي عن مجلس الأمن الدولي، وتصريحات للرئيس الأمريكي باراك أوباما بمضاعفة إجراءات عزل النظام السوري عن المحيط الدولي، وتصريحات أخرى، فرنسية وألمانية مماثلة. وعلى الصعيد الإقليمي، طالب مجلس التعاون الخليجي بوقف أعمال العنف، وعودة الاستقرار لسورية، البلد العربي الشقيق. وتزامن ذلك مع دعوة عدد من سفراء البلدان الخليجية في دمشق للعودة لبلدانهم للتشاور. ومن جهة أخرى، صعدت تركيا لغتها الهجومية على القيادة السورية، مهددة باتخاذ خطوات عملية لوقف العنف، وكلف وزير خارجيتها بنقل رسالة وصفت بأنها حازمة، من رئيس الحكومة أوردوغان للرئيس السوري، بشار الأسد.
هناك خشية حقيقية من استعادة السيناريو الليبي على الأرض السورية. ولن يفشل ذلك سوى خطوات عملية تقدم عليها الحكومة السورية والمعارضة على السواء، لتجنيب البلاد حالة الفوضى، والحفاظ على الوحدة. وحرمان القوى الخارجية المتربصة بالأمة من تنفيذ مخططاتها.
لا مناص من الحوار الخلاق والمبدع بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي والسياسي في سورية وصولا إلى الاتفاق على ميثاق وطني شامل يجري طرحه لاحقا على الشعب للاقتراع عليه. إن ذلك وحده الذي ينقل الأزمة من حالتها المستعصية، المضمخة بالدم، إلى حالة نهوض تزج بقوى الشعب في معركة الديمقراطية والحرية والبناء، حفاظا على وحدة سورية وأمنها واستقرارها الوطني، وتمكينها من مواصلة دورها القومي الريادي في التصدي مع شقيقاتها الدول العربية للمشروع الاستيطاني الصهيوني، وتفعيل العمل العربي المشترك.