مسألة الدَّين ليست بالأمر الكبير والقضية سياسية بالدرجة الأولى
الإعلان عن تخفيض التصنيف الائتماني أو الجدارة الائتمانية للولايات المتحدة جاءت بسبب ارتفاع ديون الولايات المتحدة التي تجاوزت وللمرة الأولى في تاريخها إجمالي الناتج المحلي، والجدارة الائتمانية هي مؤشر تستعمله شركات التصنيف الائتماني للحكم على قدرة دولة ما أو على قدرة شركة ما على سداد ديونها، والتخفيض الائتماني الأخير للولايات المتحدة يعني من جملة ما يعني أن الولايات المتحدة لم تعد مكانا آمنا للاستثمار، إذ يحتوي الأمر على درجة من المخاطرة، بسبب تراكم ديون الدولة. ويعد قرار شركة ستاندرد آند بورز بتخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة صفعة جديدة لإدارة أوباما التي انتخبت بسبب إخفاق سابقتها في الأمور المالية والاقتصادية.
#2#
غير أن فريد زكريا - الكاتب الأمريكي المشهور - يرى الأمر بطريقة مختلفة بعض الشيء. ففريد زكريا كتب مقالا نشر له في مجلة "التايم" الأمريكية يقول فيه إن مسألة الدين الأمريكي بمعايير اقتصادية بحتة ليس بالأمر الكبير، فالقضية هي سياسية في الدرجة الأولى. فبعيدا عن الآثار الاقتصادية يقول فريد زكريا إن التأثير الأكبر لأزمة الدين الأمريكي سيكون سياسيا بالدرجة الأولى، وهنا يرى التأثير كارثيا. فالطريقة التي أفضت إلى أزمة الدين كانت قد أضافت سموما على أجواء واشنطن المتكهربة في الأصل، وهي أجواء تجعل من قدرة الأطراف المتنافسة سياسيا على التوصل إلى تسويات أمرا في غاية الصعوبة. فالديمقراطيون الآن يشعرون بأنهم في حاجة إلى تقليد تكتيكات حزب الشاي في الظهور بمظهر التصلب والتعنت عندما يتعلق الأمر بتخفيضات البرامج مثل برنامج الرعاية الصحية. وفي المقابل فإن الجمهوريين - الذين يشعرون بنوع من الاستقواء بنجاح أسلوبهم المستند إلى التنمر - قد وحدوا موقفهم بشكل أكثر صلابة حول موضوع عدم فرض ضرائب جديدة أو رفع الضرائب عن مستوياتها الحالية.
اللافت أن أي حل لأزمة الدين الأمريكي في حاجة إلى مزيج من التخفيضات على برامج الرعاية مثل الرعاية الصحية وأيضا رفع الضرائب. فالنتيجة التي يتوصل لها فريد زكريا هي أن أمريكا لم تكن في حاجة لشركة حتى تخفض من مكانتها الائتمانية، لأن الأمور وصلت إلى مرحلة لم يعد معها النظام قادرا على العمل. ينصح فريد زكريا في مقالته المطولة بضرورة العمل على تفعيل النظام بشكل يجعله قادرا على العمل، وهنا يتحدث عن الحاجة إلى تبني تسوية بين الرئيس أوباما ورئيس مجلس النواب في الكونجرس جون بوهنير لتخفيض العجز في الموازنة بمقدار أربعة تريليونات على مدار السنوات العشر القادمة. وفي واقع الأمر كان هناك مجال للتوصل إلى مثل هذه الخطة، لتكون قيد التنفيذ، لأن الحزبين كان من الممكن أن تكون لهما مصلحة للاستثمار والمساهمة فيها.
ويرى فريد زكريا أنه كان من الممكن أن يتوصل النظام إلى صيغة خطة باولز - سيمبسون التي عملت على تخفيض الدين القومي بنسبة مساوية مع أنها احتوت على صعوبات طالت الحزبين. هكذا كان الكونجرس مستعدا للعمل في السابق: التوصل إلى خطط كبيرة تتضمن تعاونا بين الحزبين مع قبول مبدأ التسويات التي يقدمها كل حزب. وبالفعل هكذا كانت الأمور في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي عندما عمل النظام بشكل ممتاز ساهم في تقديم حلول للضمان الاجتماعي وإصلاح نظام الضريبة وعقلنة سياسة الهجرة وأيضا إغلاق مئات من قواعد الجيش.
الطريقة التي تتم بها معالجة الأمور في واشنطن هي مثيرة للشفقة، فقد برهنت أمريكا للأمريكان وللعالم وللأسواق العالمية أن النظام السياسي في أمريكا قد تعطل وأن الأمريكان غير قادرين على التوصل إلى سياسة عامة ذات معنى. ومع ذلك وفي خضم الصعوبات التي تمر بها الولايات المتحدة فهناك جانب مضيء ربما يصلح ليكون العزاء الوحيد، فالسيف المسلط على رقاب أعضاء الكونجرس (تخفيض نفقات الدفاع وبرنامج الرعاية الصحية إذ لم يتمكن الحزبان من التوصل إلى سلة من التخفيضات) من المفترض أن يدفع المشرعين للعمل بحرص ووعي.
ولا يستبعد فريد زكريا أن وضعا كهذا يمكن أن يخلق حالة من النقاش الوطني حول دور الحكومة. وربما يكون ذلك أحد أهداف الرئيس أوباما وفي حساباته عندما قبل صفقة الدين التي كانت ستنهي الأزمة (التي قام حزب الشاي خلالها بوضع قيمة البلد الائتمانية أسيرة لأجندات الحزب) وفرض نقاش وطني واسع، وهو نوع من النقاش يكون فيه الرئيس في وضع مريح لقيادته وتوجيهه.
هذا النوع من النقاش حول دور الحكومة مهم ومتأخر جدا، فقد بدأ النقاش الحديث عن دور الحكومة مع بروز رونالد ريجان وصعوده لسدة الحكم في عام 1980، وبالفعل ركب الرئيس ريجان موجة الإحباط من الضرائب المرتفعة والحكومات الكبيرة، وكان قد وعد بتقليل حجم الحكومة وقد نجح في مسألة الضرائب، ومع أنه رفع الضرائب عدة مرات خلال فترتي رئاسته إلا أنه وعندما غادر البيت الأبيض كانت نسبة الضرائب لإجمالي الناتج المحلي هي 18 في المائة في حين كانت عندما وصل إلى الحكم 20 في المائة. غير أن ما لم يتمكن ريجان من القيام به كان تخفيض الإنفاق بشكل منتظم، وقد وصل الإنفاق في عهد ريجان إلى معدل 22.4 في المائة من إجمالي الناتج المحلي وهو أعلى من معدل الأعوام من 1971 إلى 2009. صحيح أن جزءا كبيرا من الإنفاق كان على الدفاع لكن أيضا في فترته كل شيء ارتفع، فمثلا المساعدات للمزارع ارتفعت إلى 140 في المائة، ويقول فريد زكريا إنه إذا ما قمت بتخفيض الضرائب ولم تقلل من الإنفاق فهناك طريقة واحدة لتعويض الفرق: الاقتراض. طبعا وصل الدين العام إلى ثلاثة أضعاف، فمن 712 مليار دولار في عام 1980 وصل الدين العام إلى تريليوني في عام 1988. وقد عكس الرئيس ريجان ما يفضله الشعب الأمريكي، فالشعب يريد حكومة كبيرة وتخفيضا للضرائب! لكن الطريقة الوحيدة لعمل ذلك في غياب معجزة هي اللجوء للدين، وبالفعل لجأت الحكومة على كل المستويات ـ الولاية، والمدينة والمجلس المحلي ـ إلى النهج نفسه وارتفع الدين نتيجة لذلك. وبسبب غياب المحاسبة والرقابة القوية، فقد قام السياسيون على مستوى الولايات إلى نوع من العمليات المتعلقة بالموازنة والتي تلبي احتياجات قواعدهم، فعندما يطلب موظفو القطاع العام زيادة في الرواتب فإن السياسيين يقومون بإقرار زيادات متواضعة نوعا ما لكن مع العمل على تخصيص منافع وفوائد كبيرة لأغراض التقاعد والرعاية الصحية، وبهذه الطريقة فإن أرقام الموازنة لا تبدو سيئة حتى وقت متأخر عندما يكون السياسيون الذين قاموا بالتدمير متقاعدون بشكل آمن.
واللافت أن هذه الطريقة سيطرت على العمل لمدة ثلاثة عقود مع استثناءات على المستوى الفيدرالي، فقد تمكن الرئيس بوش الأب من تقليل الإنفاق، وعندما جاء الرئيس بيل كلينتون للحكم تمكن من وضع الأمور تحت السيطرة، وأكثر من ذلك، مع نهاية فترة الرئيس بيل كلينتون في نهاية عام 2000 كان هناك فائض في الموازنة العامة. لكن مع صعود المحافظين الجدد وفوز جورج بوش الابن بالرئاسة في انتخابات عام 2000 تغيرت الأمور، فقام الرئيس بوش الابن بتخفيض الضرائب ورفع من فوائد الرعاية الصحية وشن حربين (وهذه الأعمال لم تكن مدفوعة دون رفع نسبة الضرائب). والنتيجة البادية للعيان هي أن الوفر أو الفائض في الموازنة الذي حققه بيل كلينتون اختفى، وبحلول عام 2008 كان الدين العام يصل إلى عشرة تريليونات دولار إلى أن جاءت الضربة الأخيرة عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية وحدث التباطؤ الاقتصادي وهو ما يعني أن موارد الضرائب الفيدرالية كانت قد انهارت، وأتبع ذلك بمزيد من التخفيض على الضرائب وإنفاق خطط التحفيز. لهذا السبب وصل الدين العام إلى ما يقارب 14.3 تريليون دولار.
أمام هذا الواقع المرير نسبيا ما السبيل؟ بعض الاقتصاديين يرون أن الاقتصاد هش وأنه من الأفضل ألا يكون هناك خفض في النفقات أو زيادة في الضرائب، وهذا صحيح. فالسياسة الاقتصادية العاقلة يمكن أن تكون أكثر حول التحفيز والعمل على تخفيض العجز في السنوات المقبلة. غير أن المشكلة هي أن مثل هذه السياسة الحكيمة بعيدة كل البعد عن النظام الأمريكي اليوم! فلغاية الآن فإن النقاش الوطني يتمحور حول فانتازيا أن الأمريكان ليسوا مضطرين للاختيار بين الحكومة الكبيرة أو الضرائب المنخفضة، فالفانتازيا تفيد بأنه من الممكن الحفاظ على حكومة كبيرة وضرائب منخفضة. لكن الضرائب الفيدرالية تصل إلى 15 في المائة من إجمالي الناتج المحلي وهي منخفضة، كما أن الإنفاق وصل إلى 24 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وفي هذه الحالة لا توجد طريقة مقنعة لجسر الهوة دون زيادة ضرائب. وهنا نشير إلى حقيقة أن الأمريكان يفضلون برامج الحكومة، وهو أمر لا يعجب الجمهوريين. فاستطلاعات الرأي تكشف عن أن الشعب الأمريكي يفضل زيادة الضرائب على تخفيض الرعاية الصحية (مع أن على أمريكا القيام بالأمرين معا).
وبصرف النظر عن النقاش الأيديولوجي، فإن النتيجة ستترجم إلى سياسة عامة، وإلى أن يحدث ذلك في عام 2012 تحتاج أمريكا إلى حكومة قادرة على العمل، وبالفعل فقد أظهرت أزمة الدين أن الكونجرس ـ الذي يعد القلب النابض للعمل اليومي ـ معطل بشكل كبير. فأكثر من أي وقت مضى، يعاني الكونجرس مسألة الاستقطاب، فلأول مرة منذ زمن بعيد يكون فيه الجناح اليساري للحزب الجمهوري أكثر محافظة من الجناح اليمين للحزب الديمقراطي، ولا يوجد معتدلون كانوا معتادين على عمل التسويات في الكونجرس، وقد أفضى هذا الاستقطاب إلى حالة من الشلل، فبعد عامين من حكم أوباما ما زالت هناك مئات الوظائف الفارغة لغياب المصادقة على الوظائف من قبل مجلس الشيوخ. وعلى سبيل المثال كان على وزارة المالية الأمريكية أن تتعامل مع الأزمة المالية العالمية والتباطؤ ومشكلة البنوك وصناعة السيارات والواجبات الروتينية في وقت ما زال فيه مئات الوظائف من الطراز الرفيع فارغة، بسبب مجلس الشيوخ وأساليبه في تأخير التعيينات والمماطلة. فالمماطلة filibuster التي كانت توظف مرة واحدة في العقد أصبحت الآن روتينا يهدف لتمكين الأقلية من إحباط إرادة الأغلبية.
فالجمهوريون الأمريكان تمكنوا من المماطلة فيما يقارب 80 في المائة من التشريعات الرئيسة.
الملاحظة الأخيرة التي جاء بها فريد زكريا هي أن الأحزاب الأمريكية اقتربت من الأحزاب الأوروبية في كونها أيديولوجية مع غياب النظام الأوروبي بطبيعة الحال، ففي بريطانيا على سبيل المثال يكون فيه رئيس الحكومة، إضافة إلى كونه رئيسا للسلطة التنفيذية فهو أيضا مشرع. فالحزب الحاكم لديه فرصة تنفيذ أجنداته، وعندها يتمكن الشارع من إعادة الانتخاب أو الإطاحة بالحكومة، غير أن النظام في أمريكا متداخل السلطات، فلا يوجد شخص واحد أو حزب واحد في موضع مسيطر، ولهذا السبب يصر حزب الشاي على وضع سقف الدين ليكون أسيرا حتى يتمكن الحزب من فرض سياساته على الدولة، وهي المرة الأولى التي استعمل فيها سقف الدين بهذه الطريقة وهو عمل غير أمريكي بالدرجة الأولى.
باختصار شديد، هناك أسباب اقتصادية لا يمكن القفز فوقها كشفت عورة النظام السياسي الأمريكي الذي كان ولوقت قريب يعد المثالي على مستوى العالم، غير أن تفاقم الأزمة لدرجة دفعت لتخفيض مكانة الولايات المتحدة الائتمانية كان له سبب سياسي يتعلق بالشلل الذي يعانيه الكونجرس وانعكاس ذلك على قدرة الرئيس أوباما على إدارة الشأن الداخلي والاقتصادي، فهناك حالة من الاستقطاب تعمل على تعميق الأزمة المالية وأزمة الديون، وبالتالي ننتظر عاما ساخنا في النقاش الوطني الأمريكي، إذ لا يفصلنا إلا عام وشهران عن انتخابات عام 2012.