ماذا يحدث في العالم؟

يصعب على الفرد أن يخطط لمقالاته في ظل ما يحدث في العالم حاليا من تقلبات عنيفة. فقد كان من المفترض أن أتابع اليوم مسببات تضخم الدين العام الأمريكي والسيناريوهات المستقبلية له، لكن العالم تعرض هذا الأسبوع لصدمات عدة أعادتنا إلى المربع صفر مرة أخرى، بعد أن كان العالم يستعد للخروج من أكبر أزمة أصابته منذ الكساد العالمي الكبير، وتعرضت الأسواق المالية في أنحاء العالم كافة إلى ما يشبه الانهيار. انهيار يوم الإثنين الماضي ألقى بظلال كئيبة عبر العالم أجمع، وأخذنا نقارن ما يحدث حاليا بوضع الأسواق في 2008 عندما انطلقت الأزمة المالية العالمية في 2008، وبدا من الواضح أن أي أصل مالي لم يعد يوفر الحماية للمستثمرين فيه.
في اجتماع لجنة السوق المفتوح في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يوم الثلاثاء 9 آب (أغسطس) قررت اللجنة الإبقاء على معدل الفائدة الصفري حتى منتصف 2013، كما أعلنت أنها ستستمر في إعادة استثمار إيرادات السندات التي يحل أجلها، والتي يحتفظ بها الاحتياطي الفيدرالي في إطار سياسة التيسير الكمي، أو ما يطلق عليه سياسة نصف التيسير الكمي، كذلك أعلنت اللجنة أنها ستقوم بمراجعة حجم وتركيبة الأوراق المالية التي يحتفظ بها الاحتياطي الفيدرالي وتعديلها بالشكل المناسب، وفي الوقت ذاته ستستمر في مراقبة تطور الأوضاع الاقتصادية واتخاذ ما يلزم لدعم الأداء الاقتصادي على المستوى الكلي.
بعد أن تم نشر محضر اجتماع اللجنة ارتدت الأسواق مرة أخرى، وأخذت مؤشرات الأسهم والدولار في التصاعد، في الوقت الذي حدثت فيه موجة تصحيحية محدودة للذهب حتى كتابة هذا المقال، ما يعني أن الولايات المتحدة ستستمر في اتباع سياسة النقود الرخيصة.
لقد أقدمت هذا الأسبوع إحدى مؤسسات التصنيف الائتماني، وهي مؤسسة ستاندرد آند بورز، على تنفيذ تهديداتها السابقة للولايات المتحدة بتخفيض التصنيف الائتمان للدين الأمريكي إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق حول رفع سقف الدين الأمريكي، وما إن تم رفع سقف الدين، وفي ضوء ما حدث من مهاترات في فترة المفاوضات لرفع سقف الدين، سارعت المؤسسة إلى خفض التصنيف الائتماني للدين الأمريكي من AAA إلى AA+، وهو ما يعني أن سندات الدين الأمريكية فقدت تصنيفها الممتاز باعتبارها أصلا خاليا من المخاطرة لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، وفقا لتصنيف هذه المؤسسة.
ما إن سرت هذه الأخبار في الأسواق العالمية مع بداية عطلة نهاية الأسبوع حتى تراكمت مخاوف المستثمرين في أنحاء العالم كافة عبر عطلة نهاية الأسبوع، وأخذ الكثير من المستثمرين عبر أنحاء العالم في التخلص من أكبر قدر من محتفظاته من الأصول المالية خوفا من النتائج التي يمكن أن تترتب على هذه الخطوة، وأخذ الهلع يدب في قلوب الجميع، خصوصا في ظل وجود إشارات قوية إلى احتمالات تعقد مشكلة الديون السيادية لأوروبا، بصفة خاصة بالنسبة لإسبانيا وإيطاليا، واصطبغت أسواق العالم باللون الأحمر، وأصبحنا نتحدث عن احتمالات حدوث تراجع مزدوج للاقتصاد العالمي، خصوصا في الولايات المتحدة.
بالطبع في وسط هذه الفوضى تتجه أنظار العالم نحو الذهب، معدن الأزمات أو الملاذ الآمن، كما يفضل أن يطلق عليه المضاربون في الذهب، فقفز هذا الأخير على أنغام ما يحدث إلى مستويات تاريخية وغير معقولة أو مقبولة في الوقت ذاته. فحتى كتابة هذه السطور تجاوز سعر أوقية الذهب 1770 دولارا، وهو ضرب من ضروب الجنون، فكيف يباع معدن يتكلف إنتاج الأوقية منه نحو 600 دولار بما يقارب ثلاثة أضعاف تكلفته! إن ذلك يعكس بالطبع حقيقة مهمة هي أن آليات السوق لا تعمل بشكل صحيح، وأن ما يحدث في سوق الذهب من مضاربات يدفع بالسوق بعيدا عن التوازن، وهو ما يطلق عليه بالمضاربات المزعزعة لاستقرار السوقdestabilizing speculation. ويقصد بالمضاربات المزعزعة لاستقرار السوق اتجاه المضاربين نحو الشراء بصورة أشد عندما ترتفع الأسعار، استنادا إلى التوقعات القوية باستمرار ارتفاع الأسعار بصورة أكبر في المستقبل، وتهافت المتعاملين نحو البيع عندما تنخفض الأسعار استنادا إلى التوقعات القوية باستمرار انخفاض الأسعار بصورة أكبر في المستقبل، غير أن التطورات في سوق الذهب حاليا تقدم دليلا في غاية الخطورة، وهو أن ما يظن المضاربون أنه الملاذ الآمن في ظل هذه الظروف يتحول – مع الأسف الشديد - إلى أصل في غاية الخطورة، حيث إن حدة انفجار فقاعة الذهب تشتد مع كل رقم فلكي جديد يحققه الذهب في البورصات العالمية للمعدن.
الشبح الذي يهدد العالم حاليا يمكن تسميته بأزمة الديون العالمية، التي إذا انطلقت، فمن المؤكد أنها ستسبب الموجة الثانية للأزمة الاقتصادية العالمية التي ستقصم ظهر العالم، ما لم يتم التعامل معها بحزم للحد من المخاطر الهائلة التي يمكن أن تنتج عن انطلاق هذه الأزمة. نحن نتحدث عن أصول للمؤسسات المالية في أنحاء العالم كافة تقدر بتريليونات الدولارات والمستثمرة في صورة سندات أصدرتها الحكومات وهي غير مبالية، أو ربما لم تعر الاهتمام الكافي بقدرتها على خدمة هذه الديون على المدى الطويل، خصوصا في ظل ظروف الأزمة، حيث تقل الإيرادات العامة للدول بشكل كبير، ومن ثم تضعف قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، الأمر الذي يعني أن الدين العام لحكومات دول العالم الذي ينمو حاليا، ينمو في التوقيت الخطأ.
أحد الأسباب الأساسية أيضا وراء ارتفاع مستويات الديون العامة للدول هو الاتجاه العالمي لخفض الضرائب على الشرائح ذات الدخل المرتفع، فالإيرادات العامة لدول العالم عند مستويات متدنية جدا بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم حاليا، لأن الحكومات لا تجمع من أغنيائها ضرائب كافية. صحيح أن هدف الحكومات الأسمى من خفض الضرائب هو مساعدة قطاع الأعمال الخاص على خلق المزيد من الوظائف من خلال تخفيض الضرائب وتحفيزه على القيام بالمزيد من الاستثمار، إلا أن الاتجاه العام لخفض الضرائب في جميع دول العالم يتسبب في النمو الهائل لمدخرات الأفراد في شتى بقاع الأرض. هذه المدخرات الهائلة تبحث عن سبل لاستثمارها وتوفير عوائد مناسبة عليها، سواء من جانب الأفراد أو من جانب المؤسسات المالية التي تتلقى هذه المدخرات كمودعات، أو حصص في صناديق الاستثمار مثلا ... إلخ، وهو ما يؤدي إلى رفع أسعار الأصول إلى عنان السماء سواء في أسواق الأسهم أو الأصول الحقيقية كالعقار والذهب.
ففي الوقت الذي تكون فيه الحكومات مطالبة بأن يكون إنفاقها استثنائيا للتعامل مع تبعات الأزمة ولدفع الاقتصاد نحو الخروج منها، فإن الجانب الأكبر من المدخرات، التي كان يفترض أن يكون جانبا منها في خزانة الدول كضرائب، يظل يبحث عن أي فرصة للاستثمار الآمن، وبما أن ديون الحكومات من الناحية النظرية من أكثر الأصول المالية أمنا، فإن مدخرات الأفراد تتوجه نحوها، إما مباشرة بواسطة المدخرين أو بصورة غير مباشرة من خلال المؤسسات المالية التي تجمع هذه المدخرات، الأمر الذي يسهل على الحكومات مهمة الاقتراض من الجمهور، غير أنه بدلا من أن تقتطع الدولة جانبا من هذه المدخرات في صورة ضرائب، تجد نفسها تدفع فوائد على هذه الإيرادات الضائعة.
لقد كان من المتوقع عند انطلاق الأزمة المالية العالمية على النطاق الذي شهدناه أن يرزح العالم لفترة طويلة من الزمن في حالة ركود، وذلك بالنظر إلى ضخامة التأثيرات المتوقعة للأزمة، غير أن انجراف دول العالم أجمع نحو الإسراع بالخروج من الأزمة في أقصر وقت ممكن وباستخدام كافة وسائل التحفيز، سواء المباشر أو غير المباشر لاقتصاداتها، دفع حكومات العالم إلى أن تنسى، أو تتناسى، أنها في خضم ذلك كله تخلق لنفسها مشكلة أخرى ربما تكون أخطر أو أعمق في ظل تصاعد العجز في ميزانياتها.
فقد استخدمت معظم دول العالم سياسة معدلات الفائدة الصفريةZero interest rate policy (ZIRP) ، للخروج من الأزمة، حيث تشجع معدلات الفائدة الصفرية المستهلكين على الشراء، وتساعد على انتعاش أسواق الأسهم بشكل كبير، وكذلك تعمل على تخفيض قيمة العملات، ما يقلل من آثار العجز الخارجي لميزان المدفوعات، على سبيل المثال منذ انطلاق الأزمة والاحتياطي الفيدرالي يضع المستويات المستهدفة لمعدل الفائدة عند صفر تقريبا، كما أنه من الواضح، كما سبقت الإشارة، أن الاحتياطي الفيدرالي سيستمر في تبني هذه السياسة في المستقبل القريب.
غير أن معدلات الفائدة الصفرية فتحت شهية الحكومات نحو أمر خطير جدا وهو المبالغة في الاقتراض استنادا إلى انخفاض تكلفة هذه الديون في ظل المعدلات المتدنية للفائدة، الأمر الذي أدى إلى تراكم جبال ما يطلق عليه ديون معدلات الفائدة الصفرية ZIRP debts، على سبيل المثال ديون اليابان والولايات المتحدة، حيث تجاوزت في الأولى الناتج المحلي الإجمالي بضعفين ونصف تقريبا وتجاوزت في الثانية الناتج المحلي الإجمالي لأول مرة منذ عام 1947. الخطر الكامن وراء ديون معدلات الفائدة الصفرية التي بلغت هذه المستويات الفلكية، يتمثل في أنها من الممكن أن تقضي على جانب كبير من الإيرادات العامة للدول فقط لدفع تكلفة الفوائد عليها، وذلك إذا ما عادت معدلات الفائدة إلى مستوياتها الطبيعية قبل الأزمة.
باختصار شديد إن التطورات الأخيرة التي تحدث في العالم توحي بقوة بأن ديون معدلات الفائدة الصفرية ربما تسبب الموجة الثانية من الأزمة الاقتصادية العالمية، وأن ما تظنه الحكومات يساعدها على حل أزمتها الاقتصادية، ربما يتسبب في حدوث أزمات طاحنة لها.
في الأسبوع المقبل أناقش مقترحا يلف العالم حاليا، وهو مقترح تشريع الميزانية المتوازنة Balanced budget law، أو تعديل الدساتير الوطنية كي تجعل الميزانية المتوازنة التزاما أساسيا على الحكومات، ثم أعود مرة أخرى لأتابع تحليل تضخم الدين العام الأمريكي إن أحيانا الله - سبحانه وتعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي