خيارات تركيا وموقفها من الأزمة السورية
القادة الأتراك أرادوا من زيارة أوغلو توجيه "إنذار" أخير للنظام السوري بحسب بعض المسؤولين الأتراك الذين تحدثوا للصحافة التركية عن تهديد بالقطيعة مع النظام السوري والانتقال إلى مرحلة التدخل الدولي، إذا لم تحمل الأيام القليلة القادمة إجراءات على الأرض توقف العنف ضد المحتجين، وتتضمن اتخاذ خطوات تلبي مطالب الانتفاضة السورية.
برز الموقف التركي حيال الأزمة في سورية بقوة خلال الأسبوعين الماضيين، وذلك بعد أن امتد الحل الأمني والعسكري وطال العديد من المدن السورية، خاصة مدينتي حماه ودير الزور، حيث سارع رئيس الوزراء التركي إلى المطالبة بوقف العنف ضد المدنيين فورًا، والشروع في خطوات حقيقية تلبي مطالب المحتجين السلميين، وأوفد وزير خارجيته أحمد داوود أوغلو إلى دمشق، التي اجتمع فيها مع الرئيس بشار الأسد سِتّ ساعات، سلّم خلالها رسالة خطية من رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وأخرى شفوية من الرئيس عبد الله غول، وخرج بتصريحات أعطت الانطباع بأن القادة الأتراك منحوا النظام السوري ما وصفته الصحف التركية ''مهلة زمنية'' لوقف العنف والقيام بخطوات إصلاحية تفضي إلى الانتقال نحو الديمقراطية.
خيارات تركيا
واعتبرت الصحافة التركية زيارة أحمد داوود أوغلو إلى دمشق ''منعطفًا'' في تاريخ العلاقات التركية ـ السورية؛ لأن نتائجها ستحدد خيارات الموقف التركي في المرحلة المقبلة، ومن ثَمَّ فإن المدة التي حددت بعشرة أو 15 يومًا، ومنحها الأتراك للنظام في سورية للقيام بالإصلاحات المطلوبة تدخل في باب الانتظار وترقب مآل تطور الأحداث وسيرها على الأرض، وليست من باب الأخذ بوعود قاطعة بإجراء إصلاحات معينة، وهو انتظار مرهون بالمواقف الدولية، خاصة ما يتخذه مجلس الأمن الدولي من إجراءات وخطوات، والتنسيق مع الولايات المتحدة، لذلك صرح أحد المسؤولين الأتراك بأن ''أردوغان طلب من الرئيس أوباما تأجيل مطالبة الرئيس السوري بالتنحي، بانتظار أن تنقضي المهلة المعطاة للأسد لتحقيق وعوده بالإصلاح''. غير أن أوغلو نفسه تنصل من المهلة المزعومة في تصريحه الصحافي يوم الإثنين الماضي، واعتبر أنه طالب السلطات السورية بالوقف الفوري لاستخدام العنف ضد المحتجين، وبلا شروط، وسحب قطاعات الجيش إلى ثكناتها.
وقد تمخض عن زيارة أوغلو لدمشق دخول وفد من الصحافيين الأتراك سورية، وتنظيم زيارة لهم إلى مدينة حماه، حيث سجلوا ملاحظاتهم ومشاهداتهم، وكتبوا عن ''الصمت الذي يلف المدينة''، و''عن شوارعها الخالية إلا من بعض الأشخاص''، و''دبابات الجيش وآلياته التي تقف خارج المدينة''، وأن ''معظم المحال التجارية كانت مقفلة، مع انتشار العديد من الحواجز الأمنية داخل المدينة، إضافة إلى جنود مسلحين في الطرقات''. وشاهدوا أن ''السيارات المحترقة تملأ المكان، وآثار الرصاص ظاهرة على الكثير من الأبنية السكنية، في ظلّ تردُّد الكثير من السكان في الحديث لوسائل الإعلام''.
ويبدو أن القادة الأتراك أرادوا من زيارة أوغلو توجيه ''إنذار'' أخير للنظام السوري بحسب بعض المسؤولين الأتراك، الذين تحدثوا للصحافة التركية عن تهديد بالقطيعة مع النظام السوري والانتقال إلى مرحلة التدخل الدولي، إذا لم تحمل الأيام القليلة القادمة إجراءات على الأرض توقف العنف ضد المحتجين، وتتضمن اتخاذ خطوات تلبي مطالب الانتفاضة السورية.
وقد تلجأ تركيا إلى عقوبات اقتصادية، وربما خفض تمثيلها الدبلوماسي في دمشق، وتقديم الدعم للمعارضة السورية، التي عقدت معظم مؤتمراتها في تركيا. وهناك من المسؤولين الأتراك من يتحدث عن إنشاء حزام أمني على الحدود السورية، وهو كلام يبرره مضاعفة الاستعدادات التركية على الحدود مع سورية منذ بداية الاحتجاجات في سورية تحسبًا لتطورات مقبلة. أما الدخول في مرحلة التدخل الدولي، فنظر إليها الأتراك على أنها تدخل في إطار مفهوم ''التدخل الإنساني'' الذي كان موضع جدل ونقاش واسع بين المسؤولين السياسيين الأتراك، وكان موضوع نقاش أيضًا في الاتصالات التي لم تنقطع بين أردوغان وأوباما.
ولا شك في أن خيارات تركيا وموقفها تجاه الأزمة الراهنة في سورية غير بعيدة عن المواقف الدولية والإقليمية، ففي هذا الإطار ينسق القادة الأتراك مع المجتمع الدولي بشكل عام، ومع الرئيس الأمريكي باراك أوباما بشكل خاص، نظرًا لعلاقات تركيا القوية مع الولايات المتحدة، ولكونها عضوًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتعد ذراع هذا الحلف في منطقة الشرق الأوسط. كما ينسق القادة الأتراك مع بعض قادة وزعماء الدول العربية، وخصوصًا السعودية، حيث تدخل زيارة الرئيس التركي عبد الله غول يوم الإثنين الماضي للمملكة في إطار بحث الوضع في سورية مع الملك عبد الله بن عبد العزيز وتنسيق المواقف المشتركة حياله. وقد سبق للعاهل السعودي أن طالب في رسالته بوقف إراقة الدماء فورًا في سورية، في حين أن الرئيس التركي كان قد حذر نظيره السوري من الندم في حال التأخر بالقيام بالإصلاحات الديمقراطية.
وفي سياق التنسيق الإقليمي، سعى القادة الأتراك إلى التشاور مع إيران، وقام وزير الخارجية التركي بزيارة طهران، لكنه اصطدم بالموقف الإيراني الرسمي الداعم للنظام في سورية، بل إن الناطق باسم الخارجية الإيرانية ''رامين مهمانبرست''، تحدث أخيرًا بصراحة عن خيارات إيران، حين قال في مؤتمر صحافي: ''لو خيّرنا بين تركيا وسورية سنختار سورية بلا شك''، الأمر الذي يؤكده التأييد الإيراني الرسمي الكامل للنظام السوري فيما يقوم به الأخير حيال الانتفاضة السورية، وبتبني الرواية الرسمية السورية، التي تصف الانتفاضة بالمؤامرة الأجنبية، وتستهدف صمود ومقاومة سورية، والنظر إلى الحراك الاحتجاجي بوصفه ''فتنة شبيهة بما حدث في إيران في عام 2009''، إلى جانب الحملة الإعلامية التي تشنها مختلف وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية على المحتجين السوريين.
وتنطلق إيران من موقفها حيال الأزمة في سورية من التحالف الاستراتيجي الذي يربطها بالنظام السوري، ولا تتوانى عن تقديم الدعم المباشر له على مختلف المستويات، السياسية والإعلامية والمالية والاقتصادية. وتتحدث تقارير أمريكية عن تدخل إيران وتقديمها دعمًا عسكريًا ولوجيستيًا، إضافة إلى إرسال جنود من الحرس الثوري لقمع المحتجين المطالبين بالتغيير الديمقراطي. ولم تقف إيران عند هذا الحد، بل تحركت في وجه الضغوط الدبلوماسية والسياسية على النظام السوري، حيث أرسل المرشد الأعلى علي خامنئي رسالة للقيادة التركية، تفيد بأن سقوط النظام السوري خط أحمر بالنسبة لإيران.
والملاحظ أن تركيا سلكت في تعاملها مع إيران نهجًا متأنيًا وصبورًا، حيث لا يريد المسؤولون الأتراك إثارة إيران، ويرغبون في التوصل إلى لغة دولية وإقليمية واحدة في التعامل مع الأزمة السورية، الأمر الذي جعل موقفهم يتسم بالإرباك، ويمرّ بحالتين، حالة الضغط على النظام السوري وممارسة أسلوب التصريحات الحادة على أمل أن تُجبر هذه الحالة النظام على اتخاذ خطوات إصلاحية صادمة كما يقول الأتراك، والحالة الثانية هي التريث وانتظار ما يقرره المجتمع الدولي خاصة الولايات المتحدة، لذلك يلاحظ المراقبون تأرجح الموقف التركي، فأحيانًا يصمت، وأحيانًا يصعّد، أملا في إحداث تغييرات من قِبل النظام، ولم يصل إلى الآن حدّ القطيعة معه. وحتى الآن يأمل الأتراك أن يقوم الرئيس الأسد بالإصلاحات المطلوبة، وفي الوقت نفسه يضعون أنفسهم في الكفة الثانية من خلال وقوفهم مع مطالب المحتجين ومطالب الشعب السوري.
حيثيات الموقف التركي
يعتبر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن ''اهتمام تركيا بما يجري في سورية يختلف عن اهتمامها بما جرى في مصر أو تونس؛ لأن الوضع بالنسبة لسورية مختلف تمامًا''، حيث تعتبر تركيا أن ما يجري في سورية مسألة تمسها تمامًا، لكون ''سورية دولة مجاورة، وهناك حدود تمتد على مسافة 850 كليو مترًا''، لذلك يرى المسؤولون الأتراك أن ما يجري في سورية يرقى إلى مصاف مسألة تركية داخلية، تتطلب تعاملا مختلفًا. وقد سعت الحكومة التركية منذ بداية الأحداث في سورية إلى اقتراح معادلة، تقول بإنجاز الإصلاح مع المحافظة على الاستقرار، وأن يقود الرئيس السوري بشار الأسد شخصيًا الإصلاح في بلاده، وأوفدت عددًا من المسؤولين إلى دمشق، إلى جانب الاتصالات العديدة التي أجراها أردوغان مع الرئيس الأسد.
ويجد الاهتمام التركي بسورية مرجعه في مصالح واعتبارات استراتيجية وأمنية واقتصادية، كونها شكلت نافذة تركيا على العالم العربي، حيث توطدت العلاقة بين البلدين، بشكل حوّل سورية من اعتبارها بلدًا معاديًا إلى بوابة تركيا العربية، فوقعت معها عام 2004 اتفاقية التجارة الحرة، فضلا عن عشرات الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية والتجارية الأخرى. وتنامى الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط، بشكل أفضى إلى نسج شبكة من العلاقات والنفوذ في دول المشرق العربي، وإلى التوقيع على اتفاقيات اقتصادية وسياسية مهمة معها، حيث أبرمت حكومة حزب العدالة اتفاقيات ثنائية مع العديد من الدول العربية، وألغت تأشيرات الدخول مع سورية ولبنان والأردن، وتمكنت من تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي مع معظم بلدان المشرق العربي. وشَكَّل كل ذلك نقطة تحول مفصلية في السياسة التركية حيال البُلدان العربية، والأهم هو أن تركيا اُعتُبِرت بمنزلة الدولة النموذج في المنطقة العربية، المستندة إلى علاقات جيدة وإيجابية مع محيطها العربي والإسلامي، إلى جانب نجاحاتها الملحوظة في ميادين التنمية والاقتصاد والديمقراطية وفي علاقة الدين بالدولة. كما اعتبرت تركيا دولة ناجحة في إدارة العلاقات الدولية، نظرًا لمراعاة نظامها ومسؤوليها التوازن الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود.
غير أن الأمر اختلف مع تأزم الوضع في سورية، ومع استمرار وتزايد التظاهرات والاحتجاجات في مختلف المدن والبلدات السورية، حيث لجأت تركيا إلى ممارسة سياسة مزدوجة، فمن جهة أولى لم تتوقف عن حثّ القيادة السورية على القيام بالإصلاحات والتغييرات والاستجابة لمطالب المحتجين والمتظاهرين، ومن جهة أخرى، احتضنت مختلف أطراف المعارضة السياسية السورية في الخارج، وسمحت لها بعقد مؤتمراتها.
ولا شك في أن الموقف التركي من الأزمة السورية لا تحكمه فقط المصالح ولا المبادئ، بل أيضًا جملة من الاعتبارات والحسابات والتوازنات الداخلية، وكذلك الضغوط الداخلية والخارجية، إضافة إلى أن تركيا يهمها استقرار الأوضاع في المنطقة، خصوصًا على حدودها الجنوبية.
وأيًا كانت حيثيات الموقف التركي ولهجته، فإن ما يقرر مستقبل سورية هو دائمًا الوضع الداخلي أولا، ولا يمكن إطلاقًا إسقاط أي نظام بعوامل خارجية إلا بتدخل عسكري مباشر، كما حدث في العراق مثلا، وهو أمر مستبعد الحدوث في سورية، ولا يريده المنتفضون السوريون، ولا تريده المعارضة السورية، ولا يريده كل سوري غيور على وطنه. ومن ثَمَّ فإن المحدد الرئيس لتطور الأحداث ومآلاتها المحتملة هو ما يجري على الأرض، بمعنى ما تقوم به الحركة الاحتجاجية، ومدى اتساع الحركة، ووصولها إلى الكتلة الصامتة، التي لم تقرر بعد، أو لم تشارك بعد في الحراك الاحتجاجي، في ظل استمرار الحل الأمني والعسكري الذي يزهق أرواح أعداد متزايدة من الشهداء والجرحى، فضلًا عن الاعتقالات والملاحقات، ومن ثَمَّ لن يكون التطور في جهة الحل السياسي؛ لأن كل المؤشرات على الأرض لا توحي بذلك، وحتى ما حُكي عن ''الحوار الوطني'' يبدو أن أوراقه طويت تمامًا. أما العقوبات الاقتصادية فهي بالتأكيد ستؤثر في النظام، ولكن يُخشى أن تؤثر هذه العقوبات في الشعب السوري، بمعنى أن يدفع الشعب ثمن هذه العقوبات، ومن ثم تزداد الحالة سوءًا بالنسبة لقطاعات واسعة، خاصة القطاعات المتوسطة والفقيرة من الشعب السوري.