وقفيات خيرية للحفاظ على الهوية
أمام المثقف العربي الملتزم تحقيق مهمتين شاقتين، الأولى العمل على توطين فكرة الهوية العربية، وإعادة الاعتبار لها، باعتبارها المخزون الحضاري للأمة القادرة على تحفيز قدراتها للانطلاق من جديد. والثانية هي التصدي لموجات التعصب والكراهية وتعميم ثقافة الانفتاح والتسامح، وتعريف العالم بجوهر العقيدة الإسلامية، وتصحيح ما علق في الأذهان من صور خاطئة عن الإسلام والثقافة العربية لدى بلدان العالم.
> في هذا الشهر الكريم، يتبارى المؤمنون للتقرب إلى الله تعالى بالدعاء والعبادة وفعل الخير. ولا شك أن من صالح الأعمال الحفاظ على الثوابت الدينية والوطنية للأمة. ولا جدال أن هذه الثوابت واجهت صعوبات كثيرة في السنوات الأخيرة. وقد أدى ذلك إلى تراجع وحدة الأمة، ومعها تراجع دور المؤسسات المعنية بالحفاظ على هذه الثوابت، كجامعة الدول العربية والمؤسسات الثقافية والاقتصادية والسياسية التي تقع تحت مظلتها. ومع استعار ظاهرة العولمة، لم يعد هناك حديث عن هوية عربية أو إسلامية أو تكامل اقتصادي عربي، ولا عن أمن جماعي أو معاهدة دفاع عربي مشترك.
كان نصيب التربية والثقافة والتعليم في هذا التراجع كبيرا، حيث يجري التركيز بقوة على تقديس عناصر التغريب، وترسيخ مؤسساتها على حساب قضايا الأمة. وقد انتقل ذلك التراجع من بنية النظام العربي الفوقية، إلى البنية المجتمعية، حيث شمل بشكل ملحوظ، الأجيال الجديدة من الشباب، الذين أصبحوا أسرى لنزعة الاستهلاك، والأغاني والأفلام والبرامج الفنية الهابطة، ولم يعد لديهم رغبة أو اهتمام بالقضايا العربية والوطنية. وأمام هذا الخواء لم تعد مواضيع الانتماء والهوية من القضايا الجاذبة للشباب.
والواقع أن إعصار 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001 في نيويورك وواشنطن، مثل نقطة مفصلية في تصعيد الحرب على العرب والمسلمين في عموم الكرة الأرضية. لم يعد الهجوم على الثقافة العربية الإسلامية، بعد ذلك التاريخ، مقتصرا على المستشرقين والأكاديميين، والصهاينة وبعض الفعاليات الفنية والجهات المعادية للأمة في الغرب، بل أصبح حالة عامة، تحولت فيما بعد إلى احتلالات عسكرية للأرض العربية، وتعدٍّ على كرامتها، وتصاعدت من ثم لتصبح عدوانا على الذاكرة، باعتبارها الخط الأول في الدفاع عن الهوية. والحاضن لما تختزنه الأمة في وجدانها من مواريث تراكمت وترسخت عبر التاريخ.
ولأن الحفاظ على الذاكرة شرط لازم لوعي الذات، الذي هو مقدمة ضرورية للصمود. والتماهي مع إرادة البقاء، وهو أيضا شرط لا مفر منه للتهيؤ للمستقبل. فإن من المهام الحيوية الملقاة على عاتق المثقفين العرب إعادة الاعتبار بقضايا الانتماء والهوية، والتعريف بإنجازات هذه الأمة وقضاياها العادلة، والتحديات التي تواجهها، وإيجاد مخارج وآليات لتجاوز الأزمة الراهنة، وصولا إلى تحقيق علاقات تكاملية، اقتصادية وسياسية وثقافية، بين البلدان العربية. إن هذه المهام هي بالتأكيد مسؤولية وطنية وأخلاقية، لا ينبغي أن تكون فرض كفاية، إذا قام به البعض سقطت عن الباقين، فهي مسؤولية عربية جماعية ينبغي أن يضطلع بها المؤمنون بقدر أمتهم، وبقدرة هذه الأمة على أن تخرج من جديد من بين ركام الآلام والتحدي إلى أخذ مكانها اللائق والفاعل بين الأمم، كل حسب موقعه وموقفه.
إن مسؤولية المثقفين العرب، في ظل حالة التداعي الراهنة هي مسؤولية مركبة ومضاعفة. مركبة ومضاعفة من حيث إن عليها مسؤولية تجاه التاريخ، من خلال التركيز على ثوابت الأمة، وإعادة الاعتبار لموروثها الحضاري، باعتباره الحاضن الرئيسي للذاكرة الجمعية للأمة.
وفي هذا السياق، أمام المثقف العربي الملتزم تحقيق مهمتين شاقتين، الأولى العمل على توطين فكرة الهوية العربية، وإعادة الاعتبار لها، باعتبارها المخزون الحضاري للأمة القادرة على تحفيز قدراتها للانطلاق من جديد. والثانية هي التصدي لموجات التعصب والكراهية وتعميم ثقافة الانفتاح والتسامح، وتعريف العالم بجوهر العقيدة الإسلامية، وتصحيح ما علق في الأذهان من صور خاطئة عن الإسلام والثقافة العربية لدى بلدان العالم، وخاصة في الدول الغربية، تلك هي مهام الدفاع عن الأمة.
أما الشق الآخر من المهام التي ينبغي أن يضطلع بها المثقفون والمفكرون العرب، فتتصل بما له علاقة بالمستقبل. وفي هذا الاتجاه، ينبغي من جهة، التركيز على إعادة الاعتبار للعمل العربي المشترك، وتبيان أهمية قيام تكتل عربي واسع، يجعل فعلنا مقتدرا، على تنمية بلداننا باستقلالية وعلى مختلف الصعد، ويمنحنا إمكانات هائلة في الساحة الدولية. ومن جهة أخرى، المساهمة في تربية النشء الجديد، من خلال استخدام أحدث التقنيات والوسائل العلمية، من أجل تعميق فكرة الانتماء للثقافة والموروث العربيين، وتطوير مفهوم الهوية، بربط الموروث العربي الإسلامي، بالتحولات الإنسانية الكبرى التي تجري من حولنا، والدخول في عصر تنوير جديد، يتفاعل مع ما هو مستجد علميا وإنسانيا. وتنشيط الذاكرة العربية، وتعميق جدل العلاقة بين التاريخ باعتباره روح الأمة، والجغرافيا، بكل تجلياتها، باعتبار حضورها تجسيدا عمليا لإرادة الأمة، ولثقلها السياسي والاقتصادي ومهارة أدائها في المواجهة الحضارية، وقدرتها على التقدم بثبات وجدارة ووعي.
وينبغي عدم التقليل من أهمية التوجه للرأي العام العالمي، وبشكل خاص، للجاليات العربية في المغترب، من أجل خلق رصيد مساند لقضايانا العادلة، ولحقنا في التنمية والتقدم وتقرير المصير. وتصحيح ما علق في الأذهان من صور سلبية، أفرزها إعصار أيلول (سبتمبر) عام 2001، وعملت الدعاية الصهيونية على الترويج لها وترسيخها. وسيكون لزاما علينا جميعا، أن نسهم في تجسير الهوة الثقافية الواسعة بين أمتنا، ومختلف شعوب العالم. وأن نبرز ثقافة التسامح واحترام الرأي والرأي الآخر في منظومة فكرنا العربي الإسلامي. وللدور الذي يلعبه المغتربون العرب في المهجر أهمية لا يستهان بها في تصحيح العلاقة بيننا وبين الأمم الأخرى، بما يخدم مسيرة النهضة، وتطلعاتنا المشروعة في التقدم والرخاء والحياة الحرة الكريمة.
إن مهمات كبرى كهذه في حاجة إلى عمل ثقافي كبير، يستخدم أحدث ما هو متوافر من تقنيات العصر. وبشكل خاص إيجاد مراكز أبحاث متخصصة عدة، تهتم بالنشر بالعربية وباللغات الحية. وإصدار دراسات ودوريات وعمل ندوات في مختلف قضايا النهضة، وتشييد مواقع على الإنترنت، وقنوات فضائية متسقة مع هدف الدفاع عن الثوابت الوطنية والدينية، يسهم في إدارتها ويشرف عليها أكاديميون ومختصون في الشأن العربي العام، وبالولوج إلى عصر تنوير ونهضة جديدين، مع التزام واضح وصريح بثوابت الأمة. وسيكون مفيداً التركيز على المحاور الرئيسة لمشروع النهضة: الهوية، التنمية المستقلة، الحرية، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، قضايا التكامل الاقتصادي والسياسي والثقافي بين البلدان العربية. وقضايا العصر، وحقوق المرأة بأفق حضاري وتنويري.
على أن تحقيق مثل هذه المشاريع ليس بالعملية السهلة، من حيث تكلفها والقدرات الفنية المطلوب ضخها من أجل إنجازها. وهي بالتأكيد ليست مشاريع يمكن أن ينفذها أفراد قليلون بقدراتهم الذاتية، من دون دعم من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية المقتدرة، بمن في ذلك رجال الأعمال، والمؤسسات الاقتصادية.
هذه المشاريع على أهميتها وحيويتها وضخامتها، هي في عداد المؤسسات غير الربحية، وتعتمد في جوانب كثيرة منها على الجهد التطوعي، لكنها ستكون عاجزة عن أداء مهامها، ما لم يتوافر لها المال المطلوب. وعلى هذا الأساس، فإن التمويل مسألة أساسية لا غنى عنها لإنجاح هذا النوع من المشاريع. ولعل في موروثنا الإسلامي عزاء للخروج بحلول عملية لمعالجة مشكلة نقص رؤوس الأموال المطلوب ضخها لتنفيذ تلك المشاريع. فقد حث الإسلام على القيام بوقف الأملاك والمزارع وغير ذلك مما يدر بالمال لتوظيفها في سبيل البر والإحسان. وليس من شك في أن الدفاع عن الهوية والانتماء، وتنشيط الذاكرة الجمعية للأمة، والتمسك بالثوابت الوطنية والقومية، هي أمور نبيلة ومحمودة وتأتي في السياق الذي شجعت عليه الشريعة السمحة.
لا مندوحة، إذا ما أريد لهذه الأمة أن تحافظ على هويتها وثوابتها الدينية والقومية والوطنية من الانطلاق في بناء مشاريع النهضة. وليس أمامنا سوى أن نناشد، من هذا المنبر الأغر، المهتمين بتاريخ ومستقبل أمتهم من رجال أعمال وفكر ومثقفين وأهل خير، من أن يشمروا عن سواعدهم، كل من موقعه، لإقامة وقفيات خيرية لهذا النوع من الأنشطة، والعمل على توسيع دائرة مشاريع مراكز الدراسات والبحوث التي تعنى بها، كل من موقعه وحسب تخصصه. "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".