لا تثقلوا كاهل المقام السامي

أكتب هذا المقال بناء على طلب أحد الأصدقاء بعد أن دار بيني وبينه نقاش حول قضية عايشناها لمواطن وقع ضحية إشكالية تنازعته فيها عدد من الجهات التي ضاع دمه بينها، فاضطر إلى اللجوء لجهة قضائية ليصدم ونصدم برد نزل علينا نزول الصاعقة. ولأن هذا الرد كان في رأينا سمة لمشكلة يمكن أن تكون ذات أثر سلبي كبير في هيكل العمل المؤسسي في كل أجهزة الدولة، فقد ألح عليّ صديقي هذا لطرح الموضوع في هذا المقام، مع أني تحرجت قليلا مما يمكن أن يثيره هذا الطرح من ردود أفعال يمكن أن تحمل شيئا من السلبية، إلا أن أهمية الموضوع من جهة، وثبوت الأدلة التي أحملها بحوزتي من جهة أخرى، كل ذلك دفعني إلى الاستجابة لهذا الطلب وكتابة هذا المقال الذي أرجو أن يوجه أعين الاهتمام إلى ما يبرزه من مخاطر.
في هذه القصة سجلت إحدى المؤسسات البنكية ملاحظة في السجل الائتماني لهذا المواطن لدى شركة سمة للمعلومات الائتمانية. جمع هذا المواطن ما لديه من وثائق ومستندات تثبت خطأ هذا الإجراء وسعى بين الشركة والمؤسسة البنكية لمعالجة هذا الخطأ. إلا أنه وقع ضحية اعتذار الشركة بعدم قدرتها على رفع هذه الملاحظة على الرغم من قناعتها بصحة ما عرضه من إثباتات على هذا الخطأ، وكذلك تعنت المؤسسة البنكية في موقفها، ورفض اتخاذ إجراء تصحيحي يعالج هذا الخطأ، كمن أخذته العزة بالإثم. ولأن آخر الدواء الكي، فقد اضطر هذا المواطن إلى التوجه إلى القضاء لحل هذا الخلاف وإنقاذ سجله الائتماني من التشويه. ولأن المؤسسات البنكية لا تخضع للدوائر القضائية التقليدية، بما فيها ديوان المظالم والمحكمة العامة، في شكل من أشكال التمييز الذي يثير كثيرا من التساؤلات، فقد توجه بشكواه إلى لجنة تسوية المنازعات المصرفية التي تتبع مؤسسة النقد العربي السعودي. قدم هذا المواطن شكواه إلى سكرتير اللجنة، وصدم بالرد الذي تلقاه منه. الرد كان أن الخلاف لن ينظر من اللجنة إلا بعد الرفع إلى المقام السامي وانتظار توجيهه حول النظر في هذه القضية أو حفظها. وبعد نقاش وأخذ ورد حول صحة هذا الإجراء، وبعد أن أثبت سكرتير اللجنة صحته بالدليل القطعي من نص نظام اللجنة، خرج هذا المواطن لا يلوي على شيء، وهو الآن ينتظر رد المقام السامي على هذا الطلب، متوجسا أن يطول أمد هذا الرد في ظل كم المشاغل التي ينوء بها كاهل المقام السامي في إدارة شؤون الدولة. تساءل هذا المواطن وتساءلنا معه عن خصوصية هذا الإجراء في هذه اللجنة بالذات، ولماذا يمكن للجهات القضائية التقليدية أن تبت في اختصاصها في النظر في القضايا من عدمه، فيما يكبل النظام أيدي هذه اللجنة، ويمنعها من تحديد اختصاصها، ويثقل كاهل المقام السامي بمزيد من الإجراءات البيروقراطية؟
هذه القصة كانت سببا في إثارة كثير من التساؤلات حول دور المقام السامي في الخوض في كثير من الإجراءات التي كان من الممكن تفويض الاختصاص بها إلى جهات تنفيذية تم تشكيلها من الأساس للتعاطي مع تلك الإجراءات. عندما نستعرض نصوص الأنظمة والتشريعات الرسمية نجد كثيرا منها يحيل كثيرا من إجراءاتها إلى المقام السامي للإنفاذ أو الإقرار أو منح الإذن في مرحلة من مراحل تلك الإجراءات. وفي الحقيقة، أرى أن مثل هذا الإجراء يضع كثيرا من العقبات في سبيل تسهيل أمور المواطنين، وتنفيذ مشاريع التنمية، ويقوض في الوقت ذاته مبدأ تفويض الصلاحيات، ويرسخ مفهوم المركزية في إدارة شؤون الدولة. كثيرا ما نسمع عن مشروعات قد تعثرت في انتظار موافقة المقام السامي على مناقلة مالية لهذا المشروع أو زيادة في مدة ذاك المشروع. وكثيرا ما نسمع عن تأخر إقرار زيادة في الطاقة الاستيعابية لأحد المستشفيات التي يجري تنفيذها في انتظار موافقة المقام السامي. وتأتي هذه القصة لتبرز مثالا آخر للحالات التي يشكل فيها انتظار موافقة المقام السامي عقبة في تسهيل أمور المواطنين ومعالجة مشكلاتهم. المقام السامي، كما يعنيه هذا الوصف، يجب أن يكون ساميا عن الغوص في الإجراءات التفصيلية في إدارة شؤون الدولة، خاصة أن كاهله ينوء بالكثير من القضايا والموضوعات السياسية والتنموية والاستراتيجية الكبرى. المقام السامي يمثل مجلس إدارة شركة كبرى بحجم الدولة، يمارس اختصاصه في وضع الاستراتيجيات وإدارة الشؤون العظمى في سياسة الدولة، ويترك المهام التنفيذية للأجهزة التنفيذية التي يضمها هيكل الدولة. والمشكلة، أن هذا الواقع لا يمثل عقبة في سبيل إدارة شؤون الدولة وحسب، بل إنه يمثل الشماعة التي يعلق عليها كثير من الموظفين والمسؤولين فشلهم في تسيير أعمالهم وإنجاز مهامهم، ويضع اللائمة على المقام السامي الذي يسمو عن هذا الخلل.
قد يقول قائل إن الأنظمة التي يتم إقرارها من المقام السامي أساسا هي التي تحيل مثل هذه الاختصاصات إليه، وأن أولئك المسؤولين التنفيذيين لا يقومون إلا بما تمليه عليهم تلك الأنظمة. ومع أني أتفق مع هذا الطرح، إلا أن تلك الأنظمة والتشريعات إنما تصاغ وتشكل من قبل أجهزة محددة من أجهزة الدولة تضم في العادة هيئة الخبراء ومجلس الشورى والوزارة المختصة بهذا النظام أو ذلك التشريع. والمختصون في هذه الأجهزة هم من يضعون آلية تلك الإجراءات، بما فيها إجراء الإحالة إلى المقام السامي. ومن هنا، أجد أن الخلل يبدأ من الأساس من الجهات التنفيذية ذاتها التي تضع التشريعات وتقوم على تنفيذها في الوقت ذاته، وكأنها لا تريد أن تتحمل أية مسؤولية عن أداء تلك المهمات، فتحيلها إلى شماعة المقام السامي لترفع عن نفسها طائل المسؤولية. إن هذا الأمر يمثل - في رأيي المتواضع - أحد إشكالات آليات التشريع وصياغة الأنظمة في المملكة، إذ إن انخراط الأجهزة التنفيذية في صياغة التشريعات يعد خلطا واضحا وفاضحا في الاختصاصات، وشكلا من أشكال تعارض المصالح، مع أنها لا تمثل مصالح شخصية في الأساس، وإن كان هذا الخلط في بعض الحالات يشكل منفذا يمكن أن ينفذ منه أصحاب النفوس الرخيصة لتحقيق مصالح شخصية.
خلاصة القول، المقام السامي يجب أن يبقى ساميا، وأن يبقى اختصاصه بإدارة شؤون الدولة على المستوى الاستراتيجي وليس التنفيذي. ومن الضروري العمل على تصحيح آليات وهياكل صياغة الأنظمة والتشريعات حتى تحقق الفصل المطلوب بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وأقول للمسؤولين في أجهزة الدولة لا تثقلوا كاهل المقام السامي، ولا تشغلوه بصغائر الأمور. فهو يحمل همّا تنوء بحمله الجبال، ويواجه تحديات وطنية وإقليمية ودولية تتطلب منه توجيه الاهتمام إليها. وما أظن أن تعيين هؤلاء المسؤولين في مواقع المسؤولية إلا دليل ثقة المقام السامي بهم وبقدرتهم على أداء مهامهم. ولتكن أجهزة الرقابة بعد ذلك الوسيلة الفاعلة لتقييم أدائهم ومحاسبتهم عن أي خطأ أو خلل أو تقصير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي