ليلة القدر .. ليلة النفوس التي تنشد السلام
ليلة القدر محطة زمنية مباركة نشحن فيها بطاريات نفوسنا بطاقة السلام لنعيش في سلام وننشر السلام، سلام واطمئنان مع نفوسنا، وسلام ومحبة وتواصل حتى مع من يختلف معنا، فالرحمة والبركة تأتي مع السلام وبالسلام وترتفع عند حلول الكراهية في مجتمعاتنا، وليس هناك كراهية مشروعة وكراهية غير مشروعة، كما أنه ليس هناك ظلم مباح وآخر محرم.
كل شيء في هذا الوجود له ثقل، والثقل يعبر عما في هذا الموجود من محتوى. فكم يدهشنا حديث العلماء عن وجود نجوم وكواكب هي أثقل من أرضنا بملايين الملايين من المرات، ولعل أكثر ما يدهش العلماء تلك الطاقة التي تبقي هذه الكواكب والنجوم الثقيلة جدا بالموازين الكونية معلقة في السماء من غير أعمدة ترفعها أو حبال تشدها. ثقل الأجسام المادية له علاقة بكثافة المحتوى أو المخزون المادي في هذه الأجسام، فأكثرها كثافة أكثرها ثقلا. لكن ليس المادة هي كل ما تحويه الأجسام والموجودات، فهناك الطاقة والأجسام الأغنى طاقة هي أكثر الأجسام حركة وأكثرها تأثيرها فيمن حولها، فبقدر ما هناك أجسام كثيرة المادة قليلة الطاقة هناك أجسام قليلة المادة، لكنها كثيرة الطاقة، وهذه الأجسام الكثيرة الطاقة هي أثقل في الميزان من حيث الطاقة التي فيها. فالذرة على خفتها وضآلة حجمها اكتشف الإنسان فيها طاقة تفوق بكثير ما عند الكثير من الأجسام الكبيرة من طاقة، لكن هذه الطاقة وكل طاقة متاحة للإنسان تكون طاقة خيرة ونافعة إن استخدمها الإنسان كإنسان وكان استخدامه لها خاضعا لما توحيه إليه فطرته السليمة من قيم سماوية وأخلاق ربانية وتتحول هذه الطاقة نفسها إلى طاقة مدمرة ومفسدة ومخربة إن كان استخدامها خاضعا لقوانين النفس الأمارة بالسوء، فالإنسان المنزوع من إنسانيته والمجرد من أخلاقه أداة في يد الشيطان حتى ولو كان يعبد الله في الليل والنهار، وبالتالي فما يملكه هذا الإنسان من طاقة هي طاقة شيطانية مدمرة وظيفتها الهدم وليس البناء، فليس هناك ما يحمي إنسانية الإنسان ويحفظ له فطرته من أن يخترقها الشيطان غير الأخلاق الربانية، فهذه الأخلاق هي الأبواب التي تنفتح فيها نفس الإنسان على النور الإلهي الدائم وغير المنقطع، لأن رحمة الله وسعت كل شيء، وكلما أغلق الإنسان بابا من هذه الأبواب فإنه يحرم نفسه من جزء من هذا النور الإلهي المبارك. الإنسان الأفضل خلقا هو الأكثر نورا، وكل خلق سيء يترك خلفه ظلمة في النفس، وعندما تزداد هذه الظلمة ويتسع مداها يتحول هذا الفرد من إنسان إلى لا إنسان، وبهذا التحول فلا غرابة أن تنهار عنده القيم والمبادئ وعندها تعم الفوضى وتنتشر الكراهية ويسود العنف وتنتهك الحقوق.
الإنسان هذا المخلوق العظيم الذي تباهى الله بخلقه ''تبارك الله أحسن الخالقين''، وأمر الملائكة بالسجود له كبقية المخلوقات له أيضا ثقل، لكنه يتميز عنها بأن له أثقالا متعددة تبعا لطبقات وجوده، فجسده له ثقل، لكن هذا الثقل إن زاد على حده صار ضده، فالزيادة في ثقل جسد الإنسان تعني أن هناك ضعفا في إدارة الإنسان شهوة البطن، وهذه الشهوة تجر من ورائها مجموعة من الشهوات والنزوات، وكلها إن بقيت من غير ترشيد وانضباط فإنها تحمل للإنسان طاقة هدامة ومدمرة. ولعل من الحكم التي نراها من وراء فريضة الصوم أنها محطة يتدرب فيها الإنسان على ترشيد شهوة البطن، وهذا الترشيد معنى من معاني التقوى الذي هو غاية الإنسان من ممارسة هذه العبادة، فالتقوى في جانب من جوانبها تعني إن يقي الإنسان نفسه من شرور شهوة البطن. فالصوم الذي نمارسه كعبادة مفروضة علينا هو عند الأطباء طريقة من الطرق الفاعلة لعلاج الكثير من الأمراض التي تصيب الإنسان، بل يقول الأطباء إن جسد الإنسان يمارس الصوم من نفسه لعلاج ما يصيبه من مرض، فعدم الرغبة في الأكل وضعف الشهية للطعام عند المرض يفسره الأطباء بأنه جزء من استراتيجية الجسد للدفاع عنا ومحاربة ما أصابنا من مرض، فضعف الشهية للطعام عند المريض نعمة من النعم، وهي ربما جزء من الحل وليس مظهرا من مظاهر المشكلة والمرض. وهناك ثقل للإنسان من نوع آخر، وهو ثقل يرتبط بوجوده الفكري، وهذا النوع من الثقل زيادته محمودة لأنه يزيد الإنسان قدرة ويتيح للإنسان إمكانات ترفعه وترتقي بحياته. وحضارة العصر كشفت لنا عما يجلبه الثقل الفكري من خير للإنسان، فحضارة اليوم حضارة فكرية بالدرجة الأولى، وكلما ازدادت الأمة في ثقلها الفكري صارت أكثر تقدما وأكثر رقيا، وكلما كانت أخف فكريا صارت أقل حظا من التقدم وأقل نصيبا في مجال الرقي والتطور.
وهناك الثقل النفسي وهو أعلى رتبة من الثقل الفكري وأكثر منه أهمية وأثرا في الإنسان، وثقل النفس يزداد بما عندها من قيم إنسانية وبما يعبر إليها من الروح من أخلاق ربانية. النفس الثقيلة بمخزونها الأخلاقي أكثر عطاء وأكثر نفعا لنفسها وللآخرين، وبالعكس تكون النفس الخفيفة في ميزان الأخلاق، فهي نفس تصبح وتمسي في يد الشيطان وليس في يد الرحمن، وهل يأتي من الشيطان إلا ما هو شر وسوء على الإنسان وعلى المجتمع؟! وهنا بالذات وفي هذا المجال بالتحديد تتأتى أهمية شهر رمضان في حياة الإنسان المسلم، فهو شهر يتيح للإنسان الفرصة ليتمم أخلاقه أسوة بسيد الأخلاق نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي يقول عن نفسه بأنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق. فهذا الشهر العظيم الذي اقتضت فيه الأوامر الإلهية أن نمتنع عن الطعام والشراب وغيرها من الشهوات والرغبات الجسدية فرصة لنا كي ننشغل ولو لمدة شهر واحد لزيادة وزننا المعنوي، وهو وزن الأخلاق والقيم الربانية في نفوسنا. التقرب من الله في هذا الشهر العظيم من خلال الذكر والصلاة والصوم وقراءة القرآن والعبادات الأخرى إن لم تحسن أخلاقنا وتهذب من تعاملنا مع الآخرين وترشد مشاعرنا وسلوكياتنا فهي عبادات لا تزيدنا إلا بعدا عن الله - سبحانه وتعالى - فالإنسان المؤمن مطلوب منه عند نهاية شهر رمضان أن يدقق في سجل أخلاقه ويراجع حساب مشاعره وأحاسيسه وعواطفه ليرى هل هو فعلا استطاع أن يزيدها وزنا وفضلا وعلوا، وإن كان غير ذلك فعليه أن يستعد من يوم عيده على تمرين نفسه وترويض نزواته وشهواته استعدادا لشهر رمضان القادم وعندها يكون شهر رمضان، الذي هو كما قال عنه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شهر البركة والرحمة والمغفرة، فهو شهر التخرج بشهادة الأخلاق الربانية، فلن ينال الإنسان بركات هذا الشهر ولن يناله نصيب من الرحمة الإلهية والمغفرة الربانية إلا عندما يكون كما قال نبينا - محمد صلى الله عليه وآله وسلم - فأقبلوا على الله بنيات صادقة وبقلوب طاهرة، ولن نكون صادقين في نوايانا ولن تطهر قلوبنا إلا عندما تكون نفوسنا عامرة بالأخلاق الربانية.
ويتبقى هناك الثقل الروحي وهو يعبر عن مقدار ما في الروح من نور إلهي ونصيب ليلة القدر من هذا النور يفوق بكثير نصيب الأزمان الأخرى، فهي بالتعبير القرآني أفضل نصيبا من 30 ألف ليلة من الليالي الأخرى. وثقل الروح بالنور الإلهي بمقدار ما هو ثقل لها إلا أنه يطير بهذه الروح لتعانق ربها. الروح كلما تنورت وازدانت بنور الله أخذت بالإنسان إلى الأعلى وقربته أكثر من الله - سبحانه وتعالى. وفي القرب من الله يحصل الإنسان على كل الخير والبركة والرحمة الواسعة وغير المحدودة. فهذا القرب يعني إتاحة الفرصة للنفس للتخلق بأخلاق الله، فلن يكون الإنسان رحيما وهو بعيد عن الله، ولن يكون الإنسان صادقا وهو لا يجتهد أن يكون قريبا من الله، ولن يكون محسنا ومحبا لأخيه الإنسان إلا عندما يكون في طريقه للتقرب من الله، فكل العبادات طرق نسلكها للتقرب من الله، وعندما لا نجد لها أثرا في أخلاقنا فلنعلم أنها ليست بعبادات صادقة، إنما هي ارتدادات تدفعنا بعيدا عن الله - سبحانه وتعالى. وإذا كانت العبادة الصادقة في ليلة القدرة لما فيها من بركة ورحمة إلهية تقربنا من الله - سبحانه وتعالى - بمسافات أكبر بكثير من العبادة في الليالي الأخرى فإن العبادة التي نؤديها في هذه الليلة العظيمة من دون قلوب طاهرة ونيات صادقة ونقية بالأخلاق الربانية فإنها ستبعدنا عن الله - سبحانه وتعالى - كذلك بمسافات كبيرة جدا، فكيف يطلب الإنسان الرحمة من الله وهو لا يرحم عباد الله؟ وكيف يطلب المغفرة ونفسه لا تعرف المسامحة في التعامل مع الناس؟ وكيف يسأل الله أن يحبه وأن يقربه إليه وقلبه مملوء بكل أنواع الكراهية؟ فهذا يكرهه لدينه وذاك يكره لاختلاف مذهبه وآخرين يكرههم لأنهم لهم آراء واجتهادات مغايرة لما عنده، وهؤلاء يكرههم لأنهم من سلالة قوم كانوا على خلاف مع أسلافه الماضين، فهو يكره أكثر بكثير من أن يحب وهو يفرح بالكراهية ويستبشر بها أكثر من المحبة. فهذا الإنسان المشغول بتجميع أنواع الكراهية للآخرين لن يكون من أهل ليلة القدر ولن يكون مستحقا لأن تناله محبة الله في هذه الليلة العظيمة. في هذه الليلة المباركة يتنزل من الله السلام لتتلقاه القلوب الطاهرة فتزداد رحمة بالناس وتزداد حبا للإنسان الآخر كإنسان من غير أن تسمح للكراهية الدينية والمذهبية والفكرية والقبلية والمناطقية والعرقية بأن تتسلل إليها، أنها قلوب ونفوس تتلقى هذا السلام في ليلة السلام لتنشر السلام في هذه الحياة.
ليلة القدر محطة زمنية مباركة نشحن فيها بطاريات نفوسنا بطاقة السلام لنعيش في سلام وننشر السلام، سلام واطمئنان مع نفوسنا، وسلام ومحبة وتواصل حتى مع من يختلف معنا، فالرحمة والبركة تأتي مع السلام وبالسلام وترتفع عند حلول الكراهية في مجتمعاتنا وليس هناك كراهية مشروعة وكراهية غير مشروعة، كما أنه ليس هناك ظلم مباح وآخر محرم.