مع نهاية رمضان.. أما آن لنا أن نستيقظ؟
جاء رمضان وجاء معه انقلاب في نظام الحياة من حيث التفاعل الحياتي للسكان مع الليل والنهار، وذلك نتيجة للتغير الهيكلي في أوقات الدوام للموظفين والجداول الدراسية للطلاب والتلاميذ في المدارس (للفصول الدراسية الصيفية في الجامعات وعندما يكون شهر رمضان متوافقاً مع الفصول الدراسية في التعليم العام والجامعات). وهذا الانقلاب الحياتي سواء بأداء الأعمال أو التحصيل الدراسي أو الحياتي المعاشية المعتادة الأسرية والاجتماعية يأتي معاكساً للطبيعة (الفطرة) التي فطر الله الحياة عليها لجميع الكائنات. وهذا الأسلوب المقلوب للحياة الرمضانية قد آتى مع أول طفرة مادية (قبل 40 سنة) أفرزت ترفاً ورفاهية أدت إلى كثير من الانعكاسات السلبية mixed blessing على الإنتاج والاستقرار والسعادة النفسية والروحية. وهذا الوضع الترفي الترفيهي المعكوس تكاد تختص به دول الخليج والمملكة ذات الدخول المرتفعة بالقياس إلى الدول المجاورة في منطقة الشرق الأوسط، إذ إن معظم الدول العربية والمجاورة تعيش وتمارس حياة رمضانية فطرية طبيعية لم تقلب فيها أوقات الدوام ولم تستبدل فيها الحياة في النهار بالحياة في الليل على الرغم من أن أجزاء كبيرة منها ترتفع فيها درجة الحرارة بشكل كبير في الصيف الرمضاني خلافاً لما يدعيه البعض أن ارتفاع الحرارة في منطقة الخليج هو السبب الذي يدعو للمعاش والعمل ليلاً والنوم والاختفاء نهاراً. وقد أشار الله - سبحانه وتعالى - في مواضع كثيرة من القرآن إلى هذا الناموس الفطري، ومن هذه الآيات قوله تعالى ''وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا'' وقول تعالى ''هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا. إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون'' ومن الأحاديث النبوية التي تحث على التبكير: قال ـ صلى الله عليه وسلم: ''بورك لأمتي في بكورها ''. وعن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها. وتمارس جميع الكائنات الحية (ما عدا بعض الحشرات والطيور والحيوانات الشاذة كالبومة والخفاش والضفدع وبعض أنواع الذئاب) حياتها مع بزوغ النهار وتلجأ إلى السكون والنوم والهدوء مع قدوم المساء والليل. كما أن الدول الغربية والشرقية المتقدمة الناجحة في برامجها التنموية وتكاملها الاجتماعي تحرص على البدء في أعمالها مبكراً من أول النهار، حتى إنها تغير ساعات الدوام الصيفي لتصبح أكثر قرباً من الساعة الأولى من النهار. ومن الناحية الاقتصادية الاستهلاكية فإن فواتير استهلاك الكهرباء للإضاءة تزيد من تكاليف الطاقة الكهربائية وأعبائها على الدولة وعلى مختلف الوحدات الاقتصادية سواءً كانت المنازل أو المنشآت. ويضاف إلى ذلك ارتفاع تكاليف فواتير المواد الغذائية والاستهلاكية وذلك لاستمرار الاستهلاك طوال ساعات الليل، وهذا يعني أيضاً الدخول في دوائر الإسراف والتبذير المحرم عقلاً وشرعاً، هذا مع التأثيرات الصحية السلبية المعروفة في البدن نتيجة الانقلاب الفطري لفترة النوم.
وإذا كان المقصود من رمضان هو ''التعبد لله بالإمساك عن المفطرات نهاراً'' ثم نقوم نحن بالدوران والالتفاف على هذا المقصود لنجعل ساعات الليل هي ساعات النهار من حيث العمل والعيش ونجعل ساعات النهار هي ساعات الليل من حيث السكون والنوم فإننا نلغي المعنى والجوهر والروح والمقصد من هذه العبادة لتصبح شكلية معكوسة مقلوبة منتفية المنافع. ولو كان الشارع الحكيم يريد منا الصيام أثناء النوم لجعل الإمساك ليلاً حين ننام ونسكن ليلاً، ولو أردنا تحقيق الحكمة من الصيام وكنا نستيقظ ونعمل ونعيش ليلاً فإن الأحرى أن يكون الصيام ليلاً والإفطار نهاراً.
وعاشت المملكة ودول الخليج العربية أثناء المراحل الجادة من تأسيسها وتطورها واستقلالها لفترات طويلة (50 عاماً أو أكثر) أشهرا عديدة من رمضان كان المواطنون رجالاً ونساءً وأطفالاً يشاركون خلالها أقسى الأعمال وأصعب المهن يصنعون فيها حياتهم ومستقبل أبنائهم خلال ساعات النهار الرمضانية الصيفية والشتوية على مر الأيام، وأما الفتوحات والغزوات والبطولات والأمجاد الإسلامية فقد تحقق كثير منها في رمضان، إذ لم يمنعهم هذا الشهر الكريم من القتال والجهاد والعطاء والبذل والتضحية مع السمو الروحي والتطور الإيماني وتصفية الأنفس وتزكيتها وترقيتها وتنقيتها لتجدد دوماً روح الأمة أفراداً وجماعات، ومن أمثلة ذلك: غزوة بدر وفتح مكة والعديد من الانتصارات الأخرى التي كان الصيام مصدر قوة روحية تدفع إلى العمل.
وعلى الرغم من الاتجاه العام بين الأغلبية الساحقة من الشركات والأفراد والمؤسسات الحكومية لتأجيل وتأخير الدوامات الصباحية بدلاً من التبكير بها لتناسب الفترات الصيفية في رمضان فإن هناك أمثلة نموذجية ناجحة في جعل ساعات الدوام الرمضانية الصيفية أكثر تبكيراً، وأبرز مثال على ذلك ما انتهجته شركة أرامكو السعودية من جعل ساعات الدوام تبدأ من بعد صلاة الفجر إلى منتصف النهار وبذلك ضمنت انتظام عملها في الساعات الإنتاجية الصباحية المبكرة، مع توفيرها وقتا كافيا لراحة موظفيها، وهذا بلا شك يتواءم مع جواهر المقاصد من الصيام.
وحري بنا أن نجعل من هذه الشركة التي كانت أولى اللبنات التاريخية للاقتصاد السعودي أنموذجا يحتذى لإعادة النظر في الدوامات وطرق التعايش الصيفي المنتجة، خاصة في شهر رمضان المبارك المعظم الذي نريده ليكون نجاحاً وتقدماً وازدهاراً لدولتنا وأمتنا. وإذا كنا نريد النجاح الفعلي في مضمار التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي واللحاق بركب الحضارات الإنسانية المعاصرة فإننا لا بد أن نعيد النظر كرة بعد أخرى في أساليب وبرامج وأنظمة أعمالنا بحيث تستجيب للمتطلبات الجوهرية الإنتاجية وليس للمتطلبات الشكلية الاستهلاكية الترفية. وحري بأجهزة الدولة المتعلقة بالدراسات والاستشارات كمجلس الشورى ووزارة الاقتصاد والتخطيط ومراكز البحوث في الجامعات وغيرها أن تقوم بالدراسات والأبحاث التي تبين كيفية تطوير استقلال الموارد الاقتصادية والبشرية من حيث برامج العمل وأنظمة الدوام ومن ذلك ما يتعلق بالمواسم الصيفية والرمضانية.