مدرسة رمضان في الجود.. هل يتخرج منها أصحاب الشح؟
رمضان مدرسة تدريبية متكاملة وشاملة لكل التخصصات، فهو تدريب للذات على الصبر والجود وغيرهما من المعاني الجميلة، ولو أردنا أن نقف عند خلق الجود - لارتباطه بمناسبة العيد، حيث يفتقر العيد إلى كل أنواع الجود، سواء الجود بالمال، أو بالابتسامة والخلق الفاضل، أو الجود بالصلة وزيارة الأرحام - لوجدنا أن هذا الخلق الفاضل قد تربى عليه حبيبنا - صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما قال عنه ابن عباس: ''كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان''، وهذا العرض للهدي النبوي يتضمن دعوة شاملة لكل المسلمين أن يتحلوا بهذا الخلق النبيل، وعندما يربي المسلم نفسه على هذا الخلق طوال شهر كامل، ثم إذا انتهى الشهر دشن الجود بزكاة الفطر - بتوفيره جانبا ضروريا من ضروريات الحياة، وهو الإطعام للفقير بطعام أهل البلد - فإنه ما إن يقبل العيد حتى يكون المسلم على درجة من الجود الإنساني، وهذا لا يكون إلا بتربية حثيثة ودورة مكثفة على هذا الخلق الجميل، لينعكس إيجاباً على سلوكه بعد العيد، فهل انعكس خلق الجلود على سلوكنا بعد رمضان، أم أننا أصلاً لم نرع اهتماماً لهذا الخلق الكريم طوال شهر الخير؟ الوقائع على الأرض خير دليل على الإثبات أو النفي.
وما يقابل الجود، من غل اليد للعنق، والتقتير، والبخل، فهو مما ينزه عنه المؤمن نفسه، امتثالا لهدي الشارع في نهيه، في قوله تعالى: ''ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط ...''، وقوله: ''والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا...''، وقوله: ''ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم...''، ويزيد البخل قبحاً حين يتحول إلى شح، فالبخل منع المال، فإذا كان منعا، مع شدة حرص، فإنه يتحول إلى شح، وغالباً ما ينتج عن الشح حسد وقطيعة رحم، كما نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، ويدل على ذلك ما في مسند أحمد بسند صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم: ''إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا''، ولهذا نبه الله – تعالى - إلى ضرورة التوقي من الشح، فقال في موضعين من كتابه: ''ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون''، ولو نظرنا إلى واقعنا المعاصر لوجدنا كثيراً من الناس متلبسا بإحدى هاتين الصفتين، وهما: البخل، أو الشح، فالبخيل يمنع المال من دفعه للفقراء أو المساكين أو اليتامى المعوزين ... إلخ، وأما الشحيح فيبلغ به شحه أن يمنع دفعه حتى للأقربين، لأن حرصه الزائد عن المال يحمله على منع بذله للغير حتى لو كان من أهله وولده، وكم يعاني اليوم كثير من الأهل والأولاد شح آبائهم، وإمساكهم المال حتى عن نفقته في حاجياتهم المختلفة، وهذا الشحيح يكون المال وبالاً عليه، فهو مجرد حارس عليه، ليظل ماله محفوظاً لورثته من بعده، فلا استفاد منه، ولا منح أهله وأولاده فرصة الاستمتاع بماله، والنفس من طبعها الشح، كما قال تعالى: ''وأحضرت الأنفس الشح)، ولهذا إذا لم يتغلب على طبعه بالتطبع بالجود والكرم وسخاء النفس، فإنه سيظل معذباً نفسه وأهله وأولاده بالشح، وربما كان ذلك سبباً في تمنيهم وفاته لينعموا بماله، وهنا كان الوالد سبباً في حمل أهله وأولاده على عقوقه، وتمني الشر له، عياذا بالله.
وقد يبلغ البخل بالرجل حتى إنه يكون واعظاً للناس بالبخل، وربما حابسا نفسه عن التحدث بنعمة الله عليه، كما قال تعالى: ''الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ...''، قال الحافظ ابن كثير تعليقاً على هذه الآية: ''فالبخيل جحود لنعمة الله عليه، لا تظهر عليه ولا تبين، لا في أكله ولا في ملبسه، ولا في إعطائه وبذله'' أهـ. ولهذا لا تفرق أحياناً بين بعض الأثرياء وبين بعض الفقراء، ليس بسبب التواضع، إنما بسبب أنه يخفي ثراءه على الناس، ولا يتحدث بنعمة الله عليه من المال، وفي القرآن الكريم: ''وأما بنعمة ربك فحدث''، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم: ''إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه) وكم من ثري دفنه أولاده، وكانوا ربما أخذوا الزكاة لضعف حالهم، فلما توفي انكشفت حساباته، وظهرت أسهمه، وبانت عقاراته، وتبين أنه من ملاك الملايين! وهذا الممسك للمال لا يوفق للخير، وقد يكون بخله سبباً في كفره بنعمة ربه، واستغنائه عن فضله وثوابه، وربما يقوده هذا إلى التكذيب بوعد الله وفضله في الآخرة؛ بسبب نكرانه فضل الله في الدنيا، وفي هؤلاء يقول تعالى: (وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى) وهذا يدل على عدل الله - تعالى، فإنه لا يكتب طريق النار في الآخرة إلا لمن سلك طريقها، واختارها بمحض مشيئته وإرادته.
وكثيراً ما يكون البخل بالمال أو الشح به سبباً في ظهور ضغائن القلوب، لتعلق القلوب بالمال، وشغفها به، كما قال تعالى: ''إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) أي: إن يسألكم المال لنفقته في مجال الخير، يحرجكم، ويجهدكم، فتبخلوا، ويخرج بغضكم وعداوتكم، قال قتادة: ''قد علم الله أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان'' وكثير من العداوات ظهرت بين الأصحاب والأقارب بسبب المال، فأخرج حب المال، والتعلق به، ضغائن القلوب، وما تخفيه تجاه المال، ولهذا حذر النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ من عبادة المال، فقال: ''تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس ...''، ولو علم صاحب المال أنه أول من يتضرر بإمساك المال لما بخل بماله، كما قال تعالى: ''ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ...''، أي: إنما نقص نفسه من الأجر، وإنما يعود وبال ذلك عليه.
وأخطر صور البخل، هو البخل بالمال عن مستحقيه من الفقراء ونحوهم من أصناف الزكاة، وفي هؤلاء يقول تعالى: ''ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة''، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم: ''من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه ''يعني: شدقيه'' يقول: أنا مالك، أنا كنزك'' والجزاء من جنس العمل، فمن طوق المال، فإنه يطوقه أشنع حيوان، وأبشعه، فاللهم رحماك..