حديث في مفهوم الحرية
الشعار الأكبر الذي يمثل القاسم المشترك للمطالب في كل المظاهرات والتحركات الشعبية التي شهدتها وتشهدها بعض الدول العربية هو المطالبة بالحرية، وهو في ذات الوقت السمة التي توصف بها مجتمعات الدول الديمقراطية التي تعتز وتفاخر بتوفير مناخ واسع للحرية فيها. والحرية بكل أشكالها كفلها الإسلام في مجمل تعليماته وتشريعاته حتى قبل أن ترفع رايتها المجتمعات الغربية الحديثة، وأبدع في تنظيمها وتقنينها لكي لا تكون سببا في الانزلاق في مزالق الفوضى والصراعات بداعي الحرية. أهم مبادئ الحرية التي كفلها الإسلام هي في أن الحرية الفردية يجب ألا تكون على حساب المصلحة العامة من جهة، وألا تتيح مخالفة التشريعات السماوية التي نزل بها الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة من جهة أخرى. يقال إن حرية الفرد تنتهي عند حدود حرية الآخرين، وهي بذلك وسيلة لتمكين الناس من تحقيق أهدافهم وتطلعاتهم شرط ألا تتعارض أو تتصادم مع أهداف تطلعات الآخرين، وقبل ذلك شرط ألا تتعارض مع متطلبات المصلحة العامة للمجتمع. هذا الحديث هو مقدمة لما أريد طرحه من رؤية حول موضوع الحرية في منظومة التنمية والشأن الاقتصادي والتنمية العمرانية، وهو يشكل أساسا عاما لمفهوم الحرية في مختلف المجالات.
الحرية في الشأن الاقتصادي تمثل صلب النظام الرأسمالي الحديث الذي يتبنى مفهوم اقتصاد السوق وحق الأفراد والشركات في تعظيم الأرباح والعوائد. هذا المفهوم طغى في كثير من الأحيان على المفهوم الحقيقي للحرية، وأصبح تعظيم الأرباح هدفا مشروعا مهما كانت الوسائل مشروعة أو غير مشروعة، ومهما تصادمت هذه المصالح مع مصالح الآخرين والمصالح العامة للمجتمعات. ومن هنا تأتي عظمة الاقتصاد الإسلامي في أنه يقنن هذه الحرية الفردية، ويضعها تالية لمتطلبات المصلحة العامة، وهو الذي أعلن أنه "لا ضرر ولا ضرار" في الإسلام، وشرع الزكاة وجعلها ثالث أركانه، وحرَّم الربا والسحت اللذين يمثلان أشنع وسائل الاستغلال والتربح غير المشروع. والمملكة العربية السعودية التي تمثل رأس سنام الإسلام في عالم اليوم تبنت مبادئ اقتصاد السوق ضمن أطر الاقتصاد الإسلامي، ومع ذلك، فإن هناك الكثير من الممارسات والشواهد التي تبرز خللا في تطبيق هذه المبادئ إلى الحد الذي خلق تعارضات واضحة مع أسس الاقتصاد الإسلامي وتشريعاته السمحة، وخلق نماذج من المعاناة التي يعيشها المواطنون نتيجة ممارسات توصف بالجشع والتربح والاحتكار. الأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، منها ما يتعلق بالنشاط البنكي الذي تشوب عملياته كثير من شبهات الربا والاستغلال لحاجات الناس، وحتى تلك العمليات التي يتم تقديمها تحت شعار المصرفية الإسلامية تتسم بالكثير من الجشع والتربح والتكاليف المرتفعة المنظورة وغير المنظورة. ومنها ما يتعلق بالنشاط العقاري الذي يشهد ممارسات احتكارية ومضاربية واضحة صعدت بأسعار الأراضي والعقارات حتى بلغت عنان السماء، وخلقت أزمة إسكانية لا يدري أحد كيف يمكن حلها وجسر الهوة الواسعة فيها بين العرض والطلب. ومنها ما يتعلق بالنشاط التجاري الذي يلعب فيه التجار أدوارا مشبوهة من التلاعب بالأسعار واستغلال حوائج الناس دون حسيب أو رقيب. ومنها ما يتعلق بالنشاط الصحي الذي أصبح عزيزا على الكثيرين في ظل عجز المرافق الصحية الحكومية عن تلبية الطلب الهائل على الخدمات الصحية، وارتفاع تكاليفها في المرافق الصحية الخاصة، حتى في ظل برامج التأمين الطبي الذي تشهد تكاليفه هو أيضا ارتفاعا متصاعدا عاما بعد عام، على الرغم من زيادة الطلب عليه وازدياد شرائح المستفيدين منه. ومنها ما يتعلق بالنشاط التعليمي الذي تقوم فيه المدارس الخاصة برفع رسومها عاما بعد عام تحت سمع وبصر وزارة ما زالت تتخبط في برنامجها المتعثر لتطوير التعليم ذي المليارات التسعة، على الرغم من أنه يحمل اسم ملك هذه البلاد الصالح. كثيرة هي الشواهد والأمثلة على حالات الجشع والتربح على حساب مصالح الناس تحت ذريعة الحرية، وهي لعمري حرية مشوهة تبتعد كل البعد عن أسس الاقتصاد الإسلامي وتشريعاته السمحة.
وفيما يتعلق بموضوع التنمية العمرانية تبرز أيضا مشاهد أخرى من الفوضى والخلل التي تتم ممارستها تحت شعار الحرية غير المقننة. فنحن نرى مشروعات يتم تنفيذها دون أدنى جهد لتقييم آثارها على البيئة المحيطة بها، ودون أي اعتبار لحقوق الناس في ذلك المحيط. ومن ذلك مشروعات الأبراج الشاهقة التي تجرح خصوصية السكان في الأحياء المجاورة لها، وتخلق كثيرا من الضغوط والآثار السلبية على شبكات الخدمات والطرق المحيطة بها. ومن ذلك أيضا تلك الأنشطة التجارية التي تشغل المحال على الطرق وتوقع كثيرا من الضرر على مستخدميها بما تحدثه من ازدحام وتكدس للسيارات في ظل غياب نظام ملزم بتوفير مواقف كافية لها. ومن ذلك تلك المشروعات التي تفتقر إلى الذائقة المعمارية اللائقة فتشوه وجه مدننا وتخلق حالة من الفوضى العمرانية في الهوية والشكل. ومن ذلك أيضا الطغيان الرهيب لاستخدام الواجهات الزجاجية التي تحدث كثيرا من الضرر على بيئة المدن وتسهم في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري وزيادة الطلب على الطاقة لتشغيل أجهزة التكييف فيها. ومن ذلك أيضا تلك الفوضى في إنشاء مشروعات تفتقر إلى أية مبررات اقتصادية أو سوقية تهدر فيها الموارد والجهود، وتضعف القدرة الوطنية على تلبية حاجات ماسة في قطاعات أخرى، وهو ما نراه مثلا في إنشاء مشروعات المراكز التجارية والأبراج المكتبية والمدن الجامعية التي استنزفت موارد الدولة والقطاع الخاص في الوقت الذي يشهد قطاع الإسكان طلبا ملحا بلغ حد الأزمة ويحتاج إلى كثير من تلك الموارد المهدرة.
الخلل الناتج من التطبيق الجائر لمفهوم الحرية ينجر أيضا على الممارسات السلوكية لأفراد المجتمع، وهو ما نراه شائعا في حياتنا اليومية بدءا من قائد يقود سيارته بتهور ورعونة وكأنه يملك الطريق بمفرده، إلى آخر يوقف سيارته بعشوائية ليحتل مكانا مخصصا لقائد آخر، إلى آخر يتجاوز السيارات المصطفة عند إشارة مرور ليقف متقدما عليها في شكل من أشكال الأنانية المزعجة، إلى شخص يلقي بنفايات منزله على قارعة الطريق في تجاهل تام لحقوق الجار والطريق، إلى آخر يوظف نفوذه وعلاقاته ليحصل على أسبقية في أمر ما، متجاوزا حقوق الآخرين الذين سبقوه في ذلك الدور، إلى آخر يهضم حقوق جار أو ابن أو زوجة أو عامل لا لشيء سوى نزعة أنانية في نفسه ترسخها صعوبة المطالبة بالحقوق وصعوبة فرضها بقوة القانون. الأمثلة كثيرة جدا على هذا الخلل السلوكي الذي يرفع راية الحرية، ويوقع كثيرا من الآثار السلبية على ترابط المجتمع ووحدة صفه بما يخلقه من شروخ نفسية بين أفراد المجتمع الواحد.
السبيل الأمثل لمعالجة هذه السلبيات هو في رفع سقف التوعية بالمفهوم الحقيقي للحرية، وترسيخ القناعة بحقوق الآخرين من أفراد المجتمع الواحد، علاوة على التوسع في فرض الأنظمة والتشريعات التي تقنن وتنظم شؤون الحياة في المجتمع، شرط ألا تكون هذه التشريعات حبرا على ورق في ظل غياب وسائل الرقابة وفرض القوانين والعقوبات الرادعة لمن يخالفونها دون تمييز أو محاباة. وربما يكون أحد أهم الوسائل في هذا الجانب هو تفعيل دور جهاز القضاء ليكون الملجأ العادل والفاعل في معالجة أية مخالفات أو خلافات تنشأ بين أفراد المجتمع نتيجة هذا التطبيق الجائر لحرية لا يفهمها الكثيرون.