الدعم الحكومي وأزمة المياه

تحدثت في مقال سابق عن موضوع الدعم الحكومي وأثره في معالجة كثير من القضايا المتعلقة بحياة المواطن ومتطلباته المعيشية والتنموية، والحاجة إلى إعادة هيكلة هذا الدعم ليحقق الأثر المأمول منه في هذا الإطار. وقضية المياه هي إحدى القضايا التي تمثل أحد أهم الحاجيات الرئيسة للحياة، وتقع ضمن منظومة المجالات التي يوجه إليها الدعم الحكومي، ومع ذلك فهي تمثل أحد أهم التحديات التي تواجه حياة الناس، ويعيشون فيها أزمات متتالية من الانقطاع والندرة والاستغلال والتربح غير المشروع. وفي الأشهر القليلة الماضية عاشت مدينة الرياض فترة عصيبة عانى فيها السكان كثيرا من انقطاعات متكررة في تزويد مساكنهم بالمياه، وأصبحت سوق الصهاريج سوقا مزدهرة، وأصبح مشهد هذه الصهاريج وهي تذرع شوارع الرياض وأحياءها ذهابا وجيئة مشهدا مألوفا على الدوام. هذا الواقع يثير الكثير من التساؤلات حول هذا الموضع الحيوي، وحول قضية الأمن المائي، وحول دور الدعم الحكومي في معالجة هذه المشكلة، وهي الأسئلة التي سأتناولها بالنقاش في هذا المقال.
من بداهة القول أن الماء يمثل عصب الحياة الرئيس، وبه تحيا كل الكائنات، وتسير عجلة التنمية في كل مجالاتها من زراعة وصناعة وغير ذلك. وقد قال تعالى في كتابه العزيز ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ). والمملكة بطبيعة بيئتها الصحراوية الغالبة تعيش تحديا مهما في توفير المياه لاستخدامه في كل مناحي الحياة، وبذلت الدولة أموالا طائلة في برنامجها لتحلية المياه المالحة، حتى أصبحت في مقدمة دول العالم في إنتاج المياه المحلاة واستهلاكها. ومع ذلك، فإن هذا المورد النفيس يواجه كثيرا من حالات الهدر والاستهلاك الجائر، شأنه في ذلك شأن مواردنا الطبيعية الأخرى. والحقيقة أن هذه الظاهرة التي تنافي صلب مبادئ الإسلام الحنيف، والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ''لا تسرف ولو كنت على نهر جار''، تعد ظاهرة شائعة على كل المستويات، بما فيها الأنماط السلوكية الخاطئة لدى الأفراد من المواطنين، والآليات الجائرة من مختلف مؤسسات الدولة سواء كانت مسؤولة بشكل مباشر أو غير مباشر عن هذه القضية. وكلنا يرى الهدر الرهيب الذي يوقعه الناس في حمامات السباحة في المنازل، وغسيل السيارات على قارعة الطريق، وأنظمة الري المنزلية التي تفتقر إلى الكفاءة، وغير ذلك الكثير. والحديث عن المساكن على وجه الخصوص يبرز أحد أكبر المجالات التي تهدر فيها المياه بلا حسيب ولا رقيب، خاصة إذا تذكرنا أن هذه المساكن ما زالت تبنى وفق أنماط البناء التقليدية التي تستخدم الخرسانة المسلحة التي تتطلب استخدام كميات كبيرة من المياه في الخلطات الأسمنتية والرش لأيام عديدة بعد صب الهياكل الخرسانية، وبما في ذلك غياب توظيف أية آليات هندسية لفصل المياه الملونة الناتجة من الاستهلاك المنزلي وإعادة استخدام ما يمكن منها في مجالات الري ومكافحة الحريق على سبيل المثال. المنطق ذاته ينطبق على المشروعات الحكومية التي يجري العمل على تنفيذها ضمن ورشة التنمية الكبرى التي تشهدها المملكة؛ إذ ما زالت ذات الأساليب متبعة في البناء وما توقعه من هدر هائل في استهلاك المياه في عمليات البناء، وما زالت آليات إعادة استهلاك المياه في مجالات الري ومكافحة الحريق غائبة عن معظم هذه المشاريع، بما فيها تلك المشروعات التي تخص وزارة المياه والكهرباء التي هي المسؤول الأول عن هذين الموردين المهمين، والتي يفترض بها أن تكون نموذجا يحتذى في التوسع في تطبيقات ترشيد الاستهلاك فيهما.
الجانب الآخر الذي يتعلق بهذه القضية هو غياب الرقابة عنها على كل المستويات، فمن جهة نرى غيابا فاضحا للرقابة على الأنماط الاستهلاكية الجائرة، وغيابا أفضح للتشريعات التي تجرم مثل هذا الهدر وتوقع على من يمارسه أقسى العقوبات. ومن جهة أخرى نرى غيابا فاضحا آخر للرقابة على سوق صهاريج المياه وما تشهده من استغلال وتربح من معاناة الناس من انقطاعات المياه، حتى أن سعر صهريج المياه بلغ الأسبوع الماضي أكثر من 600 ريال في الوقت الذي يبلغ سعره الرسمي لدى شركة المياه الوطنية نحو 120 ريالا فقط. والحقيقة أن الرقابة تمثل جانبا مساندا لجانب التوعية التي لا يمكن أن تؤتي ثمارها دون رقابة فاعلة على سوء الاستخدام والاستهلاك الجائر، خاصة أن كل حملات التوعية التي تقودها وزارة المياه والكهرباء ما زالت قاصرة عن إقناع الناس بتغيير هذه الأنماط السلوكية في ظل تدني أسعار المياه في المملكة، وفي ظل غياب مفهوم القدوة التي يفترض بمؤسسات الدولة ومسؤوليها أن يقدموه لبقية المواطنين. الغريب أن وزارة التربية والتعليم ما زالت غائبة عن لعب دور مهم في هذا الجانب، كما هو الحال في كثير من المجالات، في الوقت الذي يفترض أن نرى تعاونا فاعلا بين الوزارتين لبذر هذه المفاهيم في أذهان النشء، وتربيتهم على ممارسة عادات وأنماط سلوكية مغايرة لما نعيشه في الوقت الحاضر.
والحديث عن أسعار المياه في المملكة حديث ذو شجون، وهي كما نعلم تعد من أقلها على مستوى العالم. فانخفاض أسعار المياه يمثل أحد أهم عوامل التشجيع على هذا الهدر، خاصة في ظل غياب الرقابة التي أشرت إليها فيما سبق. وموضوع الدعم الحكومي في هذا الجانب يمثل أيضا أحد جوانب الخلل والعدالة الظالمة، خاصة أن المياه يتم تزويدها لكافة المستخدمين باختلاف فئاتهم وقدراتهم بأسعار موحدة تقل عن التكلفة الحقيقية لهذا المورد المهم. أحد الحلول التي يمكن بها رفع كفاءة هذا الدعم الحكومي تتمثل في إعادة تسعير المياه وفق شرائح مختلفة تتلاءم مع شرائح المستخدمين وقدراتهم المالية وطبيعة استخدامهم لهذه المياه؛ إذ إنه ليس من العدل أن يستوي من يستخدم المياه لأغراض حياتية أساسية كالشرب والطبخ والوضوء، ومن يستخدمها لأغراض ترفيهية كمالية كتعبئة المسابح وغسيل السيارات وري الحدائق الشاسعة في القصور والمساكن. كما أنه يمكن رفع كفاءة هذا الدعم عبر تمكين شركة المياه الوطنية من رفع أسعار المياه من جهة، وتحديد شرائح المواطنين الذين يحتاجون إلى هذه الدعم ليتم صرفه لهم بشكل مباشر عبر قنوات وزارة الشؤون الاجتماعية مثلا، أو كعلاوة تضاف إلى رواتب السعوديين فقط دون الوافدين، والمحتاجين دون الموسرين.
خلاصة القول، مشكلة المياه لا بد لها من جهد فاعل لحل يخرج الناس من المعاناة لتي يعيشونها، والتي تنذر بخطر محدق في مستقبل الأيام والأجيال القادمة. ومعالجة هذه المشكلة تتطلب خطة وطنية استراتيجية شاملة تضع لها الحلول على المدى القريب والبعيد، وتحدد دور كل جهة من جهات الدولة في هذه الخطة. وربما يكون من المهم النظر أيضا في تأسيس مجلس أعلى للمياه على غرار المجلس الأعلى للطاقة الذي دعوت سابقا إلى تأسيسه، ولِمَ لا والماء أساس الحياة، ومن دونه فلا تنمية ولا وطن ولا مواطن؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي