11 سبتمبر .. سقوط قيم الإرهاب والكراهية لمصلحة قيم الحرية والكرامة
على الرغم من مرور عشر سنوات على أحدث الـ11 من أيلول (سبتمبر) 2001، إلا أن التاريخ سيذكر طويلا ما حدث في الولايات المتحدة في ذلك اليوم، ليس فقط بوصفه حدثا لم يشهد تاريخ العالمَين القديم والحديث شبيها له، بل في كونه حدثا خارج كل التوقعات والحسابات والخطط والتأويلات الواقعية وما فوق الواقعية.
وتبرز في هذه المناسبة الحاجة إلى إعادة قراءة متأنية لما حدث في العالم إثر تلك الأحداث. صحيح أن الولايات المتحدة تغيّرت بشكل كبير بعد حصول تلك الجريمة، لكن التغير الأكبر والدراماتيكي طاول المنطقة والدول العربية والإسلامية، والأخطر من ذلك كله، كان سعي الولايات المتحدة لتحويل الصراع إلى ميدان الدين والحضارة والفكر والثقافة وسائر القيم الرمزية.
جردة حساب
ومنذ ذلك اليوم الذي شهد انهيار برجي مبنى التجارة العالمي في نيويورك، وتدمير قسم من مبنى البنتاجون في واشنطن، اندفعت إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش إلى شن حرب على أفغانستان، ثم أعقبتها بغزو العراق واحتلاله، الذي أفضى إلى تدمير هذا البلد العربي، وإدخاله في نفق مظلم من الصراعات ما قبل المدنية. وفي موازاة ذلك أعلنت الولايات المتحدة بزعامة المحافظين الجدد خوض حرب عالمية تحت يافطة ''الحرب العالمية على الإرهاب''، استجرت عمليات عسكرية واستخباراتية، وممارسة مختلف أنواع الضغط على الحكومات العربية والإسلامية لتغيير قوانينها، وأنظمتها التعليمية، وتوجهاتها الثقافية والفكرية.
وتصرفت الإدارة الأمريكية، وعلى مدى سنوات عديدة، بذهنية الثأر للضحايا الأبرياء الذين سقطوا، ولهيبتها التي ضربت في العمق، فشنّت الحروب لتأكيد سطوتها على العالم، ونشرت الكراهية بين الشعوب. ولن يبرر ذلك جردة الحساب الثقيلة، حيث تشير الإحصاءات التي أوردتها صحيفة ''نيويورك تايمز'' الأمريكية، بهذه المناسبة، إلى سقوط 18768 قتيلا من بين القوات الأمنية العراقية والأفغانية، وسقوط ما لا يقل عن 102339 قتيلا بين المدنيين العراقيين فقط. في حين أن بعض الإحصاءات تبين أن أكثر من مليون عراقي لقوا حتفهم، نتيجة الحرب على العراق، وأن هنالك حتى اليوم أكثر من مليوني لاجئ عراقي خارج العراق، و1.7 مليون مهجر في الداخل العراقي. ومن جهتها ضحت الولايات المتحدة بأرواح الآلاف من جنودها، وأنفقت حكومتها بشكل مباشر على الحربين، في العراق وأفغانستان، نحو تريليوني دولار، فضلا عن فواتير أخرى تزيد من قيمة هذا الإنفاق بأكثر من 50 في المائة.
وكانت تكلفة الحرب الأمريكية على الإرهاب باهظة جدا، ولعبت دورا في إضعاف الإطار الماكرو اقتصادي لأمريكا، والذي بدوره فاقم عجوزاتها وعبء ديونها، حيث رصد لها في البداية 60 مليار دولار، في حين أن ''جوزيف ستيجليتز'' الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد كشف - قبل ثلاث سنوات - أن التكلفة وصلت إلى ثلاثة تريليونات دولار، وقد تقارب اليوم خمسة تريليونات دولار، يضاف إليها تكلفة بدلات العجز لـ50 في المائة من الجنود الأمريكيين العائدين من الحرب، مع تكاليف معالجة أكثر من 600 ألف من يدخلون في عداد المحاربين القدامى في مرافق مخصصة لهم؛ إذ تتوقع المراكز المتخصصة في هذا المجال أن يكون الإنفاق المستقبلي على الجنود الأمريكيين العاجزين وتكاليف الرعاية الصحية ما بين 600 - 900 مليار دولار، إلى جانب التكاليف الاجتماعية، المتمثلة في حالات الانتحار المسجلة لدى الجنود الأمريكيين. ولعل ما يزيد في تفاقم الوضع الاقتصاد الأمريكي هو أنه يمرّ بفترة من الركود تزيد من حجم الضغوط عليه، ويعاني آثار الأزمة المالية العالمية التي تسبب بها.
ومعروف أن الإدارة الأميركية سعت على الدوام إلى الالتفاف على هذه التكلفة الهائلة وإخفائها، في حين أن ثلاثة تريليونات دولار كان يمكن - حسبما بيّن ستيجليتز - أن توفر ثمانية ملايين وحدة سكنية في الولايات المتحدة، وأن تبني 15 مليون مدرسة عمومية، وتضمن الرعاية الصحية لنحو 530 مليون طفل لعام واحد، وتؤمّن منحا جامعية لـ43 مليون طالب. وكان يمكنها أيضا أن تسهم في إعمار منطقة الشرق الأوسط برمتها، لكن المشكلة هي أن جنرالات الحرب وتجار الأسلحة ضيّعوا أموال الأمريكيين، وقتلوا آلاف العراقيين، وجلبوا الفوضى وعدم الاستقرار لمنطقتنا التي هي في أمس الحاجة للأمن والاستقرار والتنمية، بدلا من الحروب والاحتلالات والتدخلات. والنتيجة هي أن الولايات المتحدة الأمريكية تشهد، اليوم، أضخم أزمة مالية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، الأمر الذي اضطرها إلى الإقرار بضرورة الانسحاب من العراق، ومن أفغانستان، ووضع حد للمغامرات والتدخلات العسكرية.
مراجعة السياسات
كان من المفترض من الولايات المتحدة الأمريكية مراجعة سياستها، بالنظر إلى حجم وهول ما جرى في نيويورك وواشنطن، ومعرفة الأسباب الكامنة وراء ما حدث، وعدم الوقوع في التضليل المحترف الذي مارسته مراكز القرار في أمريكا، والتضليل الذي روجته وسائل الإعلام الأمريكية المهيمنة مرات عديدة في أحداث عالمية جسام، وفي حروب جلبت الويلات لكثير من شعوب العالم. ويظهر واقع الحال أن إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش اتبعت سياسات طائشة بعد أحداث الـ11 من أيلول (سبتمبر) 2001؛ إذ شنت الحروب التدميرية في العديد من البلدان العربية والإسلامية، ولم تخلّف وراءها سوى بلدانا مدمّرة، وفرقاء حرب، وتربة صالحة لتكاثر مختلف الأصوليات والعصبيات. ففي أفغانستان لم تنجح الولايات المتحدة في بناء دولة تستطيع تسيير أمورها لوحدها، فيما تشهد حركة ''طالبان'' عودة قوية على الصعيدين، العسكري والسياسي. وفشل الاحتلال الأمريكي في ضبط الوضع العراقي؛ إذ لم ينجح في تأسيس دولة لمجموع العراقيين، بعد أن حوّل العراق إلى بلد مدمر، ومرتع لميلشيات إرهابية، وفرق موت. وقدمت الولايات المتحدة الأمريكية خدمة كبيرة للنظام الإيراني، حين أسقطت نظامين مجاورين له ومعاديين لتوجهاته. في حين أن مصادر وتقارير أمريكية كشفت تورط إيران في أحداث الـ11 من أيلول (سبتمبر)، من خلال تدريب بعض عناصر تنظيم ''القاعدة''. وتتحدث المصادر عن أن لجنة التحقيق في أحداث أيلول (سبتمبر) أكدت في تموز (يوليو) 2004 أن من بعض الأشخاص الذين نفذوا العملية سافروا إلى إيران وخرجوا منها ما بين تشرين الأول (أكتوبر) 2000 وشباط (فبراير) 2001. كما أكدت وجود دلائل قوية تبيّن أن إيران سهلت مرور أعضاء القاعدة إلى أفغانستان والخروج منها.
غير أن الإدارة الأمريكية السابقة لم تكترث كثيرا بالفاعل الحقيقي للحدث، بل كان العراق هو الهدف المطلوب؛ لذلك لا بد من الرجوع إلى السجلات القديمة من أجل خلق الذراع والحجج الجديدة التي تبرر شن الحرب عليه، وبالتالي تراجعت أولوية ''الحرب على الإرهاب'' لصالح صنف جديد من الحروب هو ''الحرب الوقائية'' أو ''الاستباقية''.
وقد انهارت سريعا الحجج والذرائع التي دافعت عن فكرة الحرب على العراق؛ إذ لا وجود لأسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق، وليس للعراق أية علاقة بتنظيم ''القاعدة''، بل تحوّل إلى مرتع له. ومع أن العراقيين تخلصوا من نظام صدام حسين الاستبدادي، إلا احتلال العراق لم يجلب الحرية المنشودة للعراقيين، بل مزيدا من الدمار والخراب وفقدان الأمن والبطالة وتردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية، فاتسعت حالات الشعور بالخيبة واليأس، واتسعت معها رقعة المواجهة مع الأمريكيين. وشجع سقوط النظام العراقي إيران على التدخل، حيث بات العراق، بعد الغزو الأمريكي، دولة من دون نظام سياسي مركزي، وصاحَبَ ذلك شلل في إدارة البلد، إضافة إلى عدم قدرة قوات الاحتلال والحكومة المتعاونة معه على إدارته. وقد تضاربت وتقاطعت في الوقت نفسه مصالح إيران مع مصالح الولايات المتحدة في تثبيت الاستقرار في العراق، وفي نشر الفوضى فيه كذلك.
قطبا الاستقطاب
بعد الفشل الأمريكي في العراق، وصلت الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية، التي وضعها المحافظون الجدد، إلى طريق مسدود، على الرغم من أنها أشبعت بسياسة الانفراد وثنائيات ميتافيزيقا القوة، فلم تعد تلقى قبولا داخل أوساط الشعب الأمريكي وخارجه، وانكشفت جميع وسائلها وأهدافها وتكتيكاتها، وبات دافع الضرائب الأمريكي يتساءل عن جدوى سياسات القوة والحروب الوقائية والاستباقية، والأهم من ذلك هو أن الإدارة الأمريكية لم تعد قادرة على الاستمرار في استغلال مخاوفه الأمريكيين وتجييرها خدمة لحروبها، التي لم توفر الحدّ الأدنى من الأمن والاستقرار في العالم، إضافة إلى تغيّر المزاج الدولي وعدم ركون الدول الكبرى في العالم إلى الصمت إزاء النهج الأميركي الذي لا يحترم مصالح الدول، ولا الاعتداء على أفغانستان الذي أعقب اعتداءات 11/9 كان مفهوما.
وأعلن وصول باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية انتهاء حقبة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة؛ ذلك أنه في ظل الحروب التي خاضتها الإدارة الأمريكية السابقة خلال السنوات الماضية، حدث استقطاب مأساوي ورهيب ما بين أصوليتين: أصولية إنجيلية جديدة يتزعمها الرئيس بوش وجملة المحافظين الجدد وحلفائهم، وأصولية إسلامية جهادية يتزعمها تنظيم القاعدة وحلفائه. وفي سياق محاولة الأصولية الأولى الهيمنة على العالم وفرض نموذجها التغييري الراديكالي، ومحاولات الأصولية الثانية عولمة الجهاد وتحويله إلى عنف ضد الولايات المتحدة والدول الغربية، فإن الخسارة الكبرى لحقت بجملة الديمقراطيين والليبراليين الوطنيين في البلدان العربية، فتضررت الحركة الديمقراطية بشكل خاص في هذه البلدان التي تدعي الولايات المتحدة سعيها لنشر الديمقراطية فيها، فيما تلقت الأنظمة الاستبدادية العربية دعما كبيرا لم تكن تتوقعه، فعملت على إسكات الأصوات المعارضة، وإحكام قبضتها الأمنية، والإمعان في التحكم والسيطرة على رقاب العباد وثروات البلاد. وعليه، فإن إحدى النتائج الكارثية لهذا الاستقطاب هو تراجع العمل السلمي الديمقراطي الساعي نحو حياة أفضل للأفراد والمجتمعات العربية.
ردّ الربيع العربي
غير أن الشباب العربي قلب المعادلات السائدة، وتمرد على الظلم، وانتفض ليرد على كل الأصوليات المتطرفة، فقاد حراكا احتجاجيا شعبيا في العديد من البلدان العربية، منذ نهاية عام 2010 وإلى أيامنا هذه، بدءا من تونس ثم مصر وليبيا واليمن وصولا إلى سورية وسواها، مطالبا بحق الشعوب العربية الحرية والكرامة والمشاركة السياسية.
وجاءت الانتفاضات والثورات العربية سلمية الطابع والنهج والتوجه، وخارج نهج العنف الأصولي والمتشدد، بل وشكلت قطيعة مع كافة أصحاب التيار العنفي، ومع نهج الحروب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. وكشفت عري قوى الاستبداد، وهشاشة وضعف البنى التي أوجدتها، والتي لم تتمكن من تحقيق أبسط مطالب الشعوب في الحرية والكرامة، وتأمين ممكنات العيش الكريم، ولم تتمكن كذلك من مواجهة الصراع مع إسرائيل ومع الهجمة الأمريكية التي قادها المحافظون الجديد، وتزعمها الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، وبالتالي جاءت الانتفاضات والثورات العربية بمثابة رد مناسب على أصحاب الطروحات الثقافوية والأنثربولوجية، وأصحاب نظريات الاستثناء العربي والاستعصاء حيال الديمقراطية والحداثة. ورأى العالم بأجمعه أن مطالب الشعوب العربية، تتمحور حول الحرية والكرامة، وليس حول العداء أو كراهية الغرب الأطلسي والأوروبي، الأمر الذي وضع كافة القوى السياسية، وخاصة الإسلاميين وقواهم وتنظيماتهم أمام المطلب الديمقراطي والانفتاح على عالم اليوم، وفق قيم المواطنة والتعددية والتسامح وسواها من القيم والمبادئ العالمية.